أما بعد:
نواصل الحديث عن موضوع نهاية الألفية الثانية، وقد انتهينا في الخطبة السابقة عن حكم الاحتفال بهذه المناسبة، وخلصنا من أقوال العلماء أنها مناسبة باطلة لا يجوز الاحتفال بها لأنها قائمة على أساس شركي باطل، ثم ذكرنا حكم مشاركة المسلم في هذه الاحتفالات وأنه حرام ولا يجوز، وذكرنا غفلة بعض الناس عندنا كأصحاب بعض المحلات من تخفيض على السلع أو عمل دعايات بمناسة الألفية وأن هذا نوع من المشاركة المحرمة. وذكرنا أيضاً اعتقاد اليهود الباطل في عيسى عليه السلام ومثلهم النصارى، وختمنا بعقيدة المسلمين الحقة في عيسى صلى الله عليه وسلم التي بينها ربنا في كتابه ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، وأنه بريء من كل ما ينسب إليه أو يفعل باسمه في الاحتفالات القادمة. مرة أخرى ما علاقتنا نحن المسلمين بهذه الألفية وهذه الاحتفالات والتي في حقيقتها أعياد شركية باطالة محرفة، إنها مناسبة لا تمت للمسلمين بصلة، وإن احتفال بعض الدول بهذا العيد، ومع كونه محرماً في ذاته فهو أيضاً يدخل في التشبه بالكفار من جهة أخرى.
ولقد جاءت النصوص الكثيرة جداً من الكتاب والسنة تنهى عن التشبه بهم وتبين أنهم في ضلال، فمن قلدهم فقد قلدهم في ضلالهم قال الله تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون وقال سبحانه: ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق.
وما من شك أن مشابهتهم أوحضور المسلم لاحتفالاتهم أو احتفال المسلمين في بلادهم بمناسباتهم كعيد الألفية القادم لمن أعظم الدلائل على مودتهم ومحبتهم، وهذا يخرق عقيدة الولاء والبراء، ويناقض البراءة من الكفر وأهله، والله جل وعز نهى المؤمنين عن مودتهم وموالاتهم، وجعل موالاتهم سبباً لأن يكون المرء والعياذ بالله منهم قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقال تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "المشابهة تورث المودة والمحبة والموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر" انتهى.
إن من الأصول العظيمة التي هي من أصول ديننا الولاء للإسلام وأهله والبراءة من الكفر وأهله، ومن محتّمات تلك البراءة من الكفر وأهله تميز المسلم عن أهل الكفر واعتزازه بدينه وفخره بإسلامه مهما كانت أحوال الكفار قوة وتقدماً وحضارة، ومهما كانت أحوال المسلمين ضعفاً وتخلفاً وتفرقاً، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تتخذ قوة الكفار وضعف المسلمين ذريعة لتقليدهم ومسوغاً للتشبه بهم كما يدعو إلى ذلك المنافقون والمنهزمون.
مرة أخرى ما علاقتنا نحن المسلمين بهذه الألفية، فنحن أمة لها خصائصها ولها ما يميزها عن اليهود وعن النصارى وعن غيرهما من الأمم الكافرة الضالة، ولعل جهل بعض الناس بهذه القضية هو أحد أسباب الإنزلاق في هذه المخالفات العقدية، فهذه الأمة: خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل قال الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس أخرج ابن ماجة والبيهقي بسند حسن قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنكم وفّيتم سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله)) ويظهر هذا الإكرام كما قال المناوي رحمه الله تعالى في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدهم ومنازلهم في الجنة ومقامهم في الموقف وغير ذلك، ومما فضلوا به الذكاء وقوة الفهم ودقة النظر وحسن الاستنباط فإنهم أوتوا من ذلك ما لم ينله أحد ممن قبلهم ألا ترى إلى بني إسرائيل عاينوا من الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الحكيم وتصديق الكليم كانفجار البحر ونتق الجبل وغير ذلك ثم اتخذوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. انتهى.
فعجباً لأمة هي خير الأمم وأكرم الأمم ويريد بعض أفرادها أن ينعقوا وراء عباد العجل.
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أمة التاريخ الهجري الذي يميزها عن باقي الأمم، فالتاريخ الهجري هو تاريخ المسلمين المعتمد الذي انعقد الإجماع على العمل به، وهو من شعائر أهل الإسلام، والرغبة عنه إلى غيره من تواريخ الشرق أو الغرب خروج عن الإجماع وإظهار شعار من شعائر الكفار واستغناء به ومشاركة في طمس الهوية الإسلامية. ولا يمكن أن تستقيم عبادات هذه الأمة التي أمرها بها خالقها إلا بالتاريخ الهجري. فعبادات هذه الأمة مرتبط بهذا التاريخ وغيره لا يصلح لنا. وأظن أنه لا يخفاك أن الألفية القادمة مرتبطة بتاريخ النصارى.
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أمة الأقل عملاً والأكثر أجراً: وهذا من فضل الله تعالى بأن جعل الطاعات التي تقوم بها لله تعالى قصيرة وليست فيها مشقة، وهذا يوضحه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى. ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاءً؟ فقال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء)).
قال ابن كثير رحمه الله: والمراد من هذا التشبيه بالعمال وتفاوت أجورهم، وأن ذلك ليس منوطاً بكثرة العمل وقلته، بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى، وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير.
هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر في سواها، وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه من تمر. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور، وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة من العلوم النافعة والأعمال الصالحة على سائر الأنبياء قبله حتى نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويعمل بطاعة الله ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه عظمته كما قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدروا على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ومن خصائص هذه الأمة: أن الله يجعل الكفار من اليهود والنصارى فداءً للمسلم من النار يوم القيامة: فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار)) رواه مسلم. وعند الإمام أحمد بسند صحيح عن عمر بن عبدالعزيز عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهودياً أو نصرانياً)) قال فاستحلفه عمر بن عبدالعزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحلف له فسرّ بذلك عمر.
ومعنى هذا الحديث كما قال النووي رحمه الله تعالى: أن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين، ولا بد من هذا التفسير لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان الكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها والله أعلم. انتهى.
أليس من الغبن أن يتشبه بعض المسلمين ويقلدوا قوماً يجعلهم الله يوم القيامة حطب جهنم؟ وليس عندنا شك بأن كل اليهود والنصارى إذا لم يسلموا فهم وقود النار لأنهم يموتون على الكفر، وقد وجه هذا السؤال للجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز للمسلم أن يقول على اليهودي أو المسيحي كافر؟
فكانت الإجابة: يجوز للمسلم أن يقول لليهودي أو المسيحي أنه كافر لأن الله وصفهم في القرآن بهذا الوصف، وهذا معلوم لمن تدبر القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى.
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أمة الغيث، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنهم شهداء الله في الأرض، وأنهم الشهداء على الأمم، وأمة السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وأول الأمم إجازة على الصراط، وأول الأمم دخولاً الجنة، وأنهم أكثر أهل الجنة، وأمة السلام والتأمين، وجعلت لها الأرض مسجداً وطهوراً، ويأتون يوم القيامة غراً من السجود محجلون من آثار الوضوء، أمة السحور، أضل الله اليهود والنصارى عن يوم الجمعة وهدانا إليه سياحتها الجهاد في سبيل الله، أحلت لها الغنائم، تجاوز الله عن ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم، من مات من هذه الأمة يوم الجمعة أو ليلته وقاه الله فتنة القبر، أمة الإسناد، مرض الطاعون شهادة لهذه الأمة، وضع الله عنها الخطأ والنسيان، خفف الله عنها كثيراً من الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وغيرها من الخصائص التي ينبغي لها أن تعيها وأن تعتز بها وأن لا تجري وراء كل ناعق وماحق.
بارك الله لي ولكم. .
|