أما بعد:
يقول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين.
أيها الأخوة المؤمنون: تكلمنا في الجمعة الماضية عن هذه الآية ،وذكرنا بأن هذه البيعة تقع بمجرد إسلام الشخص، وأنه لا خيار له في هذه البيعة.
ثم بدأنا في شرح موجز لصفات أولئك النفر الذين بشرهم الله جل وعلا بأن لهم الجنة، وهم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ،وبشر المؤمنين.
وبقي صفتان لم نتكلم عنها في الأسبوع الماضي وهي: الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله.
فنقول بأن الصفة السادسة لهؤلاء أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر.
اعلموا رحمكم الله بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حصن الإسلام الحصين ،والدرع الواقي من الشرور والفتن ،والسياج من المعاصي والمحن ،يحمي أهل الإسلام من نزوات الشياطين ،ودعوات المبطلين ،إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين ،وتحفظ به حرمات المسلمين.
فإذا أردت يا عبد الله أن تكون من المؤمنين الذين بشرهم الله بأن لهم الجنة ،فاحرص أن تتصف بهذه الصفة ،لكي يُنال على يديك شيء مما تقدم من فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون: وهل تظهر أعلام الشريعة وتفشو أحكام الإسلام إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،لا تستوفي أركان الخيرية هذه الأمة المحمدية ،إلا به: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
إنه مجاهدة دائبة دائمة من كل مسلم حسب طاقته لإبقاء أعلام الإسلام ظاهرة ،والمنكرات قصية مطمورة ،وهو فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. يقول بعض أهل العلم: الذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين.
أيها الأخوة المؤمنون: بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان ،ويندحر أهل الباطل والفجور والعصيان، يورث القوة والعزة في المؤمنين المستمسكين ،ويذل أهل المعاصي والأهواء والمخالفين. يقول سفيان رحمه الله:إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.
عباد الله: إذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميزت السنة من البدعة ،وعرف الحلال من الحرام ،وأدرك الناس الواجب والمسنون والمباح والمكروه ،ونشأت الناشئة على المعروف وألفته ،وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.
أيها الأخوة المؤمنون:إن صاحب البصيرة يدرك أن ما أصاب كثيراً من بلاد المسلمين من جهل بالسنن والواجبات ،وفشو المعاصي والبدع والمحرمات ،ما هو إلا بسبب تقصير أهل العلم في هذا الجانب.حتى نشأت الأجيال لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكرا ،إلا من رحم الله.
إذا تعطلت هذه الشعيرة يا عباد الله ،ودك هذا الحصن ،وحطم هذا السياج ،فعلى معالم الإسلام السلام.
وقد بدرت بوادر تعطيل هذه الشعيرة والتضييق عليها، وسلب صلاحياتها فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعندها فويل للفضيلة من الرذيلة ،وويل لأهل الحق من المبطلين ،وويل لأهل الصلاح من سفه الجاهلين وتطاول الفاسقين.
أيها الناس: لا تكون ضعة المجتمع ولا ضياع الأمة ،إلا حين يترك للأفراد الحبل على الغارب ،يعيشون كما يشتهون ،ويفعلون ما يريدون ،يتجاوزون حدود الله ،ويعبثون بالأخلاق ،ويقعون في الأعراض ،وينتهكون الحرمات ،من غير وازع أو ضابط ،ومن غير رادع أو زاجر.
إن فشو المنكرات يؤدي إلى سلب نور القلب ،وانطفاء جذوة الإيمان ،وموت الغيرة على حرمات الله فتسود الفوضى ،وتستفحل الجريمة ،ثم يحيق بالقوم مكر الله، حتى إن كثرة رؤية المنكرات يقوم مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز وقوة الإنكار ،لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها ،ذهبت من القلوب وحشتها فتعتادها النفوس ،فلا يخطر على البال أنها منكرات ولا يميز الفكر أنها معاصي.
يقول بعض الصالحين:إن الخوف كل الخوف من تأنيس القلوب بالمنكرات ،لأنها إذا توالت مباشرتها ومشاهدتها آنست بها النفوس ،والنفوس إذا أنست شيئاً ،قل أن تتأثر به.
وهذا الذي خيف منه ،هو الحاصل الآن ،فمن كثرة مشاهدة المنكرات قل ما يتأثر به أحد إلا من رحم الله.يقول محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((كلا والله ،لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ،ولتأخذن على يد الظالم ،ولتأطرنه على الحق أطرا – أي تلزمونه به إلزاما – أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) – يعني بني إسرائيل –.
فاتقوا الله أيها المسلمون.واعلموا أنه لو طوى بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وأهمل علمه وعمله ،لتعطلت الشريعة ،واضمحلت الديانة ،وعمت الغفلة ،وفشت الضلالة ،وشاعت الجهالة.واستشرى الفساد ،واتسع الخرق ،وخربت البلاد ،وهلك العباد ،وحينئذٍ يحل عذاب الله ،وإن عذاب الله لشديد.
أخرج النسائي وأبو داود من حديث أبي بكر رضي الله عنه،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ،ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا ،يوشك أن يعمهم الله بعقاب)). وأخرج أبو داود من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال ،سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا)). ويقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ،أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً فتدعون فلا يستجيب لكم)) [أخرجه الترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه].
فيا أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم.
إن من كان قبلكم من اليهود والنصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،لعنهم الله على لسان أنبيائهم ،ثم عموا بالبلاء.كما قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. فهل تريدون أن يحل بنا ما حل بمن قبلنا؟.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد ،يعز فيه أهل طاعتك ،ويذل فيه أهل معصيتك ،ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ،إنك على كل شيء قدير.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
أقول هذا القول وأستغفر…
|