أما بعد:
عرضنا في الجمعة الماضية لجانب من حياة إمام أهل السنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل ،وتوقفنا قليلاً مع تلك المحنة العظيمة التي عصفت بالدولة والناس وقتاً من الزمن ،تعاقب عليها ثلاثة من الخلفاء: المأمون ،والمعتصم والواثق ،ولم تنطفأ إلا في زمن المتوكل ،وكم تصدى لتلك الفتنة الهوجاء الإمام أحمد رحمه الله ،ولاقى في سبيل أن تبقى عقيدة أهل السنة صافية نقية ،من شوائب المعتزلة ،لاقى الكثير من المعاناة والشدة ،حتى وصل إلى ما سمعتم في الجمعة الماضية ،أن يجرد من ثيابه ،ويضرب وهو صائم حتى الإغماء ،ودمائه تسيل ،ويبقى في السجن لسنوات ليتنازل عن القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ،فيبقى الإمام صامداً كالجبل فينصر الله عز وجل الحق على يديه ،ثم تمضي الأيام ،فيموت الإمام أحمد ،ومن قبله يموت المأمون والمعتصم والواثق ،ويموت أيضاً أولئك المجرمين ،من حاشية السلطان ،الذين كانوا ضد دعاة أهل السنة في ذلك الوقت ،وكانوا يمثلون السلطة الدينية الرسمية لدى الدولة ،أمثال أحمد بن أبي دؤاد ومن على شاكلته ،لكن السؤال ماذا حفظ لنا التاريخ من سيرة الإمام ،وماذا حُفظ لنا من سيرة ابن أبي دؤاد أو حتى الخلفاء أمثال المأمون أو الواثق. هذا جانب.
الجانب الآخر: كيف كانت خاتمة كل واحد منهم.
كيف كانت خاتمة الإمام ابن حنبل ،وكيف كانت نهاية كل من كان له دور في إشعال تلك الفتنة ابتداءً أو إذكاء نارها ،سواءً كانوا من العلماء الرسميين أو الوزراء أو الحاشية ،أو السجانين والجلادين.
أما حفظ التاريخ: فيكفي أن الناس لا تعرف من هو ابن أبي دؤاد عند ذكره ،ليس له سيرة يذكر بها ،ناهيك عن النكرات أمثال ابن الزيات وهرثمة وأبو العروق وأبو ذر، ومحمد بن فضيل ممن سأنبئك بأخبارهم وكيف كانت نهايتهم بعد قليل.
أما ابن حنبل فيكفي أن ملايين الناس منذ مئات السنين ،كلما عرض لهم مسألة في الفقه أو العقيدة ،سألوا عن قول الإمام أحمد. فضلاً عن أنه كلما قرأ الناس ومنذ مئات السنين حديثاً وقالوا: رواه الإمام أحمد في مسنده ،سجل ذلك في ميزان حسناته.
أما عن الخاتمة والنهاية ،فكم والله أيها الأحبة فيها من العبر لمن يعتبر. لقد كانت نهاية كل فرد شارك في تلك الفتنة ،نهاية سيئة والعياذ بالله، ماتوا شر ميتة.
إن القضية والعبرة أيها الأحبة ،ليست في شخص الإمام أحمد ،أحمد بن حنبل رجل من المسلمين ظلم ،ليست النهاية ،والخاتمة السيئة لتلك الشرذمة ،ليس لأنهم ظلموا أحمد بن حنبل أو حتى سجنوا أحمد بن حنبل لأن هناك آلاف بل ملايين من المسلمين ممن ظلم وضرب وتعدي عليه على مر التاريخ ،ولم يلزم من ذلك أن تكون نهاية من ظلمهم أو تعدي عليهم نهاية مؤلمة. وخاتمة سيئة في الدنيا يتحدث الناس بها.
إنما قصة ابن حنبل ،وسوء نهاية من شارك في تلك المحنة ،هو الوقوف في وجه الحق أن ينتشر ،محاولة صد الناس عن معرفة الحق والصواب ،محاولة وضع الحواجز والسدود أمام وصول العقيدة الصافية السليمة لجمهور المسلمين.
باختصار: نقل لنا التاريخ كما سأنقله لكم الآن سوء نهاية من شارك في تلك المحنة ،أو شارك في محنة مشابهة لها كنت قد عرضتها قديماً وهي قصة مقتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي ،هذا الإمام الذي قتل أيضاً على يد الواثق بسبب مسألة القول بخلق القرآن ،فكل من ساهم في سجن وتعذيب ابن حنبل أو قتل الخزاعي - وكلاهما من أئمة أهل السنة ومن أصحاب الحديث ومن العلماء يمكن أن نطلق عليهم باختصار - وقفوا في وجه الحركة الإصلاحية في ذلك الزمان.
كم في هذه القضية لوحدها عبرة لمن يعتبر ،إنه يخشى والله أيها الأحبة على كل واحد منا من سوء الخاتمة ،إن كان له دور لو بكلمة أو مشورة ،إذا وقف خصماً لعمل إصلاحي ولو بسيط في حي أو حارة أو مقر عمل. ناهيك عن الحركات الإصلاحية على مستوى الأمة.
إنه أمر خطير ،وجد خطير ،أن يكون هناك شخص يحاول أو يصلح فساداً ،أو يقيم معوجاً ،أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ،وأنت تقاوم وتضع العثرات في طريقه ،إنها بمعنى آخر وأوضح ،وقوف في طريق الإسلام من الانتشار، وقوف في طريق الخير من التمدد ،وقوف في وصول الحق للناس ،وهذه بالضبط هي قصة الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله قصة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وكيف عاقب الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة ،من وقفوا في وجه الشيخين ابن حنبل والخزاعي.
أيها الأحبة: ثم أما بعد: إليكم نهايتهم والله المستعان:
أحمد بن أبي دؤاد:
هذا الرجل كان من المقربين للخليفة ،وكان قاضياً ،لكن مع كل أسف كان على عقيدة المعتزلة وقد لعب دوراً كبيراً في الفتنة ،قُرب من الولاة حتى عينوه قاضي القضاة ،بمعنى أن مرجعية مجلس القضاء كان بيده ،وبقى على هذا المنصب مدة ثلاثة من الخلفاء حتى جاء المتوكل فعزله.
لقد ألب ابن أبي دؤاد الولاة على الإمام أحمد وكان يفتيهم بجواز ضربه وسجنه ،بل حتى قتله والعياذ بالله ،وقد قتل في زمن المأمون والواثق خلائق لا يحصيهم إلا الله عز وجل ،وكان ابن دؤاد يفتي بجواز قتل كل من لم يقل بخلق القرآن، حتى أنه بعدما قتل الواثق بنفسه أحمد بن نصر الخزاعي، كُلّم المتوكل بعده بأن الإمام أحمد بن نصر قتل مظلوماً ،كلمه في ذلك الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني صاحب كتاب الحيدة ،فدخل في نفس المتوكل شيء ،فسأل المتوكل ابن أبي دؤاد عن قتل أخيه الواثق للخزاعي ،فقال له: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً ،والفالج عافانا الله وإياكم مرض يصيب الإنسان ،يذهب بشقه ،يرضى بعض البدن فلا يستطيع الشخص الحركة ويبقى محبوساً في جلده.وشاء الله جل وتعالى بقدرته وعظمته ،وأمره وحكمته ،أن يصاب هذا الرجل في آخر حياته بالفالج ،ويبتليه الله عز وجل به أربع سنوات قبل موته ،ويبقى طريحاً في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده ،وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح.
سجنه الله عز وجل في جلده ،كما تسبب هو في سجن الإمام أحمد ،فأصبح بالفالج ميتاً بين أحياء ،وقد زاد الله عليه همه وغمه ومرضه ،أن عزله المتوكل من وظيفته. كما تسبب هو في فصل عشرات ومئات الأشخاص من وظائفهم ،بل أمر المتوكل بمصادرة جميع أمواله بسحبها كلها منه. دخل عليه أثناء مرضه عبد العزيز بن يحيى المكي فقال له: والله ما جئتك عائداً ،وإنما جئتك لأعزيك في نفسك ،وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن ،ثم خرج عبد العزيز المكي وهو يدعو عليه ،بأن يزيده الله مرضاً ولا ينقصه، فازداد مرضاً إلى مرضه ،ومما زاد الله عليه ،أن ولده محمد صودر من أمواله ألف ألف دينار ،ومائتي ألف دينار.وأخذه الله قبل أبيه بشهر ،وعليك أن تتخيل أخي المسلم الألم الذي يصيب الإنسان إذا مات ولده.
إنها أيها الأحبة عقوبات إلهية لأولئك المحاربين لعقيدة أهل السنة والجماعة إنها عقوبات إلهية للمحاربين لدعوة الإصلاح. وما نهاية ابن أبي دؤاد إلا نموذج لعشرات بل لمئات وألوف من النماذج على مر التاريخ. ممن جعلهم الله عز وجل عبرة لمن يعتبر ، فأين المعتبر.
نسأل الله جل وتعالى أن يجعلنا من المعتبرين ومن الداعمين لأعمال الإصلاح.
أقول هذا القول وأستغفر الله. .
|