فيقول الله عز وجل آمراً عباده والمؤمنين:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي: لتنظر كل نفس مؤمنة في أعمالها وأقوالها أتصلح لغد؟! أتصلح ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب شديد.
والمحاسبة في الدنيا، ويخفف على صاحبها محاسبة الآخرة، وكلما كان العبد دقيقاً واضحاً في محاسبة نفسه هان عليه الوقوف يوم العرض الأكبر.
وفي الأثر المعروف عن الفاروق كما عند الترمذي: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا)).
فما هي المحاسبة؟ وما هي أركانها؟ وكيف تكون؟!
اعلموا رحمني الله وإياكم أن المحاسبة تقتضي المقايسة بين نعم الله عز وجل على العبد وفعل العبد تجاه هذه النعم. والمقايسة بين ما أوجب الله على عبده من عبادات وطاعات ومدى استجابة العبد لأوامر ربه فهي نظر في رأس المال والربح والخسارة.
فرأس المال الواجبات والفرائض، والربح النوافل والطاعات والقربات، والخسارة قد تكون في رأس المال، وهذه مصيبة وقاصمة وقد تكون في الربح، فتكون نذيراً مدعاة للانتباه. وفي الحديث القدسي، يقول الرب عز وجل: ((وما تقرب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)).
والمحاسبة لها أركان، لابد منها حتى تؤتي أكلها ويظهر أثرها على سلوك العبد وعمله.
أول هذه الأركان:
العلم، فلابد من معرفة الحلال والحرام والسنة والبدعة والطاعة والمعصية. والله عز وجل قد أخبر أن أخسر الناس أعمالاً الجهال، قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف].
لذا كانت البدعة محببة إلى إبليس أكثر من المعصية؟ لأن المبتدع يظن أنه على خير وأنه على قربة وطاعة، بخلاف العاصي، فإنه يعلم أنه عاصٍِ لربه متبع لهواه. فالعلم بداية المحاسبة وأساسها وبدون علم لا تكون محاسبة، وصدق المصطفى إذ يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) فجعل الفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام من علامات إرادة الله الخير بعبده.
وأما الركن الثاني:
فهو سوء الظن بالنفس؟
فالذي يحسن الظن بنفسه لا يحاسبها!! إذ كيف يحاسبها وهو يظن أنها نفس تقية قائمة لله بحقوقه وواجباته. فهو بذلك غافل عن المحاسبة بعيد عنها.
وهذا حال كثير من العوام فإنهم يمنون علينا بصيامهم وصلاتهم وزكاتهم. فيقول أحدهم: ألست أصلي؟! ألست أصوم؟ ألست أزكي؟ ألست أعطي حقوقي؟! ففيم التشديد عليّ، ساعة لربي وساعة لقلبي!!
وخير رد على هؤلاء المساكين، قول الله عز وجل: والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة ولما سمعت أمنا عائشة رضي الله عنها هذه الآية ظنت أن المراد بها أصحاب المعاصي، يعصون الله ثم يخافون أن تؤثر معاصيهم على قبول أعمالهم الحسنة. فقالت: يا رسول الله أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال : ((لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)).
فهذا حال المؤمنين المتقين، يخافون أن ترد أعمالهم ويخافون أن لا تقبل صلاتهم وصيامهم وزكاتهم، يخافون لا لأنهم موسوسون، ولكن لأنهم يعرفون قدر أنفسهم ويعرفون قدر ربهم عز وجل قبل ذلك. فأيقنوا أن أعمالهم مهما بلغت من الإتقان والكمال، فإنها لا تصلح أن تقدم بين يدي الكبير المتعال سبحانه وتعالى.
أرأيت الرجل منا يدعو إلى بيته ثرياً أو وجيهاً فيقدم له أصناف الطعام والشراب ويعتذر له أي اعتذار لأنه يعلم أن هذا الثري غير محتاج لطعامه ولا لشرابه وأنه متعود على أرفع وأكمل وألذ وأشهى من هذا الطعام، فمهما قدمت له لن تغلب ما عنده، فتشعر بحرج ولا تنفك عن الاعتذار، ولله المثل الأعلى، فلو تأمل أحدنا أن لله عز وجل ملائكة عظاماً لا هم لهم ولا شغل إلا الطاعة والعبادة، وأنه ما من موضع قدم في السماء إلا وملك واضع جبهته ساجد لله عز وجل، حتى أطت السماء وحق لها أن تئط ولو تذكر هذا العبد أن كل شيء، نعم كل شيء من حجر وشجر ودواب يسبح بحمد الله، ولكننا لا نفقه هذا التسبيح، لو تأملنا هذا وخطر على قلوبنا، لخجل أحدنا من طاعته ولعلم أنها قاصرة في حق الله عز وجل. استمع إلى المولى عز وجل وهو يأمر عباده بعد الوقوف في عرفة وبعد أداء الركن الأعظم وبعد المن عليهم بالعفو والمغفرة والعتق من النيران ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
واستمع إلى ثناء المولى عز وجل على أهل الليل وعباده، وبالأسحار هم يستغفرون؟! يقول الحسن واصلوا صلاتهم بالتسبيح والاستغفار.
سبحان الله العظيم ممن يستغفر هؤلاء؟؟ ألم يقوموا لله والناس نيام؟! ألم يتركوا فرشهم الوثيرة وزوجاتهم ولذاتهم وقاموا يرجون الآخرة ورحمة ربهم!! ففيم الاستغفار؟! إنه معرفة العبد لقدر ربه أولاً ثم لقدر نفسه ثانياً فلما علم عظمة خالقه، وغناه عن خلقه، استصغر نفسه واحتقر عمله.
وأما الركن الثالث معاشر المؤمنين الذي لابد منه في محاسبة العبد لنفسه، فهو إدراك الفرق بين النعمة والنقمة!!
فالسعيد من وفق وهدي لمعرفة هذا الركن الهام والذي لابد منه في محاسبة العبد نفسه.
فالله عز وجل ينعم على عباده بنعم شتى، ولكن العبد يجعل منها نقمة وحجة عليه. فكان لزاماً على المحاسب نفسه أن يدرك الفرق وأن يحاسب نفسه بناء عليه.
والضابط والمعيار في التفريق بين النعمة والنقمة هو في استخدامها، وكيفية الإفادة منها.
فالمال نعمة من الله، إن أعانك على طاعة الله، وعلى صلة الرحم وتفقد المحتاجين والإحسان إلى الخلق. ونقمة وأي نقمة إن أعانك على شراء آلات اللهو والفساد وأدرت قلبك كبراً وتيهاً وتعالياً على الخلق.
ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
والصحة قد تكون نعمة وقد تكون نقمة، لذا قال : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ)).
وأي غبن أعظم من تسخير الصحة والعافية في المعاصي والموبقات وعدم صرفها في الطاعات والقربات.
والجاه والمنزلة الرفيعة، نعمة إذا استخدمها صاحبها في الشفاعة للخلق وقضاء حوائج المحتاجين والوقوف مع المظلومين.
ونقمة أيما نقمة إن استخدمها في جمع الحطام بغير حق، واستقطاع الأراضي والمنح على حساب المحتاجين وذوي الدخل المحدود.
وكم من ذي جاه ومنزلة، ظلم وطغى واستبد، فحول نعمة الله إلى نقمة.
فلا بد إذاً، معاشر المؤمنين من النظر في استخدامنا لنعم الولى عز وجل، فإن كان استخدامها في خير ومعيناً على خير وبر، فهي نعمة، وإلا فليحذر العبد من نقمة الله عليه.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|