إخوة الإيمان: وما أجمل العيش في سير القادة العظماء، ويطيب أكثر إذا كان في مواقف وأخبار السادة النجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هم أبر الأمة قلوبا، وأنقاها سريرة وأصلحها سيرة، ويتحتم أكثر فأكثر حين يكون ذودا عن المتهمين زورا وكذبا، وإيضاحا للحقيقة صدقا وعدلا.
أجل لقد جاء الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، ونوه الله بذكرهم في التوراة والإنجيل فقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه [الفتح:29].
وفي هذه الخطبة استجلاء لشخصية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، رضي الله عنه، الذي ربما غابت بعض مواقفه البطولية عن بعض الناس، وربما ترسخ في أذهان آخرين ما تنسبه إليه بعض الروايات التاريخية الساقطة من التغفيل والجهل بأبسط قواعد السياسة والحكم في قصة التحكيم، وهو العالم والفقيه والقاضي والوالى والقارئ والكيس الفطن، ويكفيه فخرا أن القرآن نزل في الثناء عليه وعلى قومه كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [المائدة:54].
أخرج الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم قومك يا أبا موسى وأومأ إليه)).
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لأبي موسى وعمه أبي عامر الأشعري في قصة تكشف عن شجاعة وصدق أبي موسى وعمه، وطلب عمه من النبي صلى الله وسلم الاستغفار له وهو في سياقة الموت، وشملت الدعوة أبا موسى، فقد روى البخاري ومسلم – في صحيحيهما – عن أبي موسى قال: ((لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس، فلقى دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه، فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم فأثبته، فقلت: ياعم من رماك؟ فأشار إليه، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى ذاهبا، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربيا؟ ألا تثبت؟ قال: فكف، فالتقيت أنا وهو فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزّ من الماء، فقال: ياابن أخي: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام وقل له: يستغفر لي، واستخلفني أبو عارم على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فلما قدمنا وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم رفع يديه ثم قال: ((اللهم اغفر لعبدك أبي عامر))، حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال " ((اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك)) قلت: ولي يا رسول الله؟ فقال: ((اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً)).
إخوة الإسلام: وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه في عداد العلماء الفقهاء أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال صفوان بين سليم – أحد فقهاء التابعين الثقات -: (لم يكن يفتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء: عمر وعلي ومعاذ وأبو موسى.
وقال مسروق: كان القضاء في الصحابة إلى ستة: عمر وعلي، وابن مسعود، وأبي، وزيد، وأبو موسى.
ولكفاءة أبي موسى وغزارة علمة، وحسن رأيه، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذاً في اليمن، وولي أبو موسى أمر الكوفة لعمر رضي الله عنه، وكذلك البصرة، وأحسن السيرة في أهلها حتى قال الحسن البصري: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى.
ومع هذه السير الحسنة والعدل في الرعية، فلم تكن الولاية في ذهن أبي موسى وغيره من صلحاء الأمة شهوة جامحة، أو سبيلاً للاستعلاء والسيطرة.
وهذا عمر رضي الله عنه، يطلب أبا موسي في رهط من المسلمين بالشام ويقول له: إني أرسلك إلى قوم عسكر الشياطين بين أظهرهم، قال أبو موسى: فلا ترسلني، قال عمر: إن بها جهاداً ورباطاً فأرسله إلى البصرة.
وكذلك تكون رغبة الجهاد والمرابطة في سبيل الله ضماناً لموافقة أبي موسى وقبوله بالولاية.
أيها المسلمون: ويظهر الفهم الدقيق – في شخصية أبي موسى رضي الله عنه – لأمور الولاية في الإسلام، فهو الأمير والقاضي، وهو المقرئ ومعلم الناس القرآن، وهو الكيّس الفطن، وهو القائد الفاتح.
فقد قال أبو شوذب: كان أبو موسى إذا صلي الصبح استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم .
وعن أنس قال بعثني الأشعري إلى عمر، فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القرآن، فقال عمر: اما إنه كّيس ولا تسمعها إياه.
وفي مجال الفتوح، فقد افتتح في أثناء ولايته: البصرة، الأهواز، والرها، وسمساط، وفتح أصبهان.
ولذا كتب عمر في وصيته: ألا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين.
هذا نموذج لولاية أبي موسى وحسن سياسته، وهو كما ترى مزيج بين الدين والدنيا، أما هذا الانشطار الغريب في الولاية بين أمور الدين والدنيا فلم يكن يعرفه أبو موسى ومن على شاكلته من ولاة المسلمين فيما مضي.
وإن تعجب – يا أخا الإسلام – من حسن سياسته وفهمه لمسؤولية الولاية والإمارة، فالعجب أشد حين تعلم شيئاً من نزاهته وترفعه عن متاع الدنيا وحطامها الفاني، فما ملك القصور والضياع ولا جمع المال والمتاع، ولم تغيره الإمارة ولا اغتر بالدنيا، كما قال الإمام الذهبي: كان أبو موسى صوماً قواماً ربانياً زاهداً عابداً، ممن جمع العلم والعمل، والجهاد وسلامة الصدر، لم تغيره الإمارة ولا اغتر بالدنيا.
وقال ابنه أبو بردة حدثتني أمي قالت: خرج أبوك حين نزع عن البصرة وما معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يا أخا الإسلام: وكما أن الأشعري من فرسان النهار، ومن صلحاء أهل الولاية في الإسلام، فكذلك الأشعري كان من رهبان الليل، ومن أهل الذكر والدعاء والصلاة وتلاوة القرآن، فقد روى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ويدي في يده، فإذا رجل يصلي يقول: ((اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
فلما كانت الليلة الثانية دخلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد، قال: فإذا ذلك الرجل يقرأ، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتراه مرائياً - ثلاث مرات -، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو مؤمن منيب، عبد الله بن قيس أو أبو موسى أوتي مزماراً من مزامير آل داود، قال: قلت: يا نبي ألا أبشره؟ قال: بلى، فبشرته فكان لي أخا)).
بل هو مؤمن منيب، تلك والله هي الشهادة العظمى، وأكرم بتزكية من لا ينطق عن الهوى، وعجبك لا ينقضي من هذا الصحابي المجاهد حتى لحظات حياته الأخيرة، وقد ورد أن أبا موسى، رضي الله عنه اجتهد قبل موته اجتهاداً شديداً فقيل له: لو أمسكت ورأفت بنفسك؟ قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من عمري أقل من ذلك.
توفي أبو موسى رضي الله عنه سنة أربع وأربعين للهجرة على الصحيح كما قال الذهبي، رضي الله عنه وأرضاه، وألحقنا به وحشرنا في زمرته …
أقول ما تسمعون وأستغفر الله.
|