أما بعد:
فاتقوا الله معاشـر المسلميـن، واعلمـوا أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العـدو ولو كان ذا تسليط:
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط [آل عمران:120].
والصبر والتقوى طريق العز والتمكين، كذلك أخبر الله عن يوسف عليه السلام: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف:90].
أيها المسلمون:
حديث اليوم عن عبادة الضراء، وعدة المسلم حين نزول البلاء، وزاد المؤمن حين وقوع الابتلاء، عن الطاقة المدخرة في السراء، والحبل المتين في الضراء .. إنه الصبر تبدو مرارته ظاهرا، ويصعب الاستشفاء به عند الضعفاء، لكن مرارته تغدو حلاوة مستقبلا، ويأنس به رفيقا الأقوياء النبلاء.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم.
ويكبر في عين الصغير صغيرها وتصغر في عين العظيم العظائم
جعل الله الصبر جوادا لا يكبو، وصارما لا ينبو، وجندا لا يهزم، وحصنا حصينا لا يهدم ولا يثلم.
وهو كما قيل أخي المؤمن: يجول ثم يرجع إليها، مثله للإنسان مثل العروة تثبت في الأرض أو الحائط، تربط بها الدابة، فتتحول ثم تعود إليها.
وهو ساق إيمان المؤمن، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمان به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة.
فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقوا إلى أعالي المنازل بشكرهم، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
أيها المؤمنون: لا غنى عن الصبر في هذه الحياة، وإذا استوى الأبرار والفجار في حاجتهم للصبر على نكد العيش ومفاجأة الحياة، فاز الأبرار بالثواب العظيم على صبرهم لأنهم يصبرون في ذات الله، وخاب الفجار لأنهم لا يرجون من وراء صبرهم جزاء ولا شكورا.
وإذا كانت مرارة الدواء يعقبها الشفاء، فقد رتب الله على الصبر المحتسب عظيم الجزاء فقال جل من قائل: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10]. قال الأوزاعي رحمه الله: (ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف لهم غرفا).
عباد الله: وإذا كان المسلم محتاجا للصبر في كل حال فحاجته إليه أشد إذا مرجت العهود، وضعفت الذمم واختلت المقاييس والقيم، ونحتاج للصبر إذا خون الأمين، وسود الخؤون، وألبس الحق بالباطل، وسكت العالمون، وتنمر الجاهلون.
والصبر المشروع هنا ليس يأسا مقنطا، ولا عجزا مقعدا، إنه الثبات على الحق، والنصح بالتي هي أحسن للخلق، والشعور بالعزة الإيمانية مع الظلم والهضم، والثقة بنصر الله وإن علت رايات الباطل برهة من الزمن، فالصبر والنصر - كما قيل - أخوان شقيقان، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر.
أيها المسلم والمسلمة: وأنت محتاج للصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله وعلى أقدار الله.
تحتاج للصبر على الطاعة شكرا للمنعم، وأنسا بالخالق، واستجلابا لراحة القلب وطمانينة النفس، وتحتاج للصبر على الطاعة لطول الطريق، وقلة الرفيق، وكثرة الأشواك.
كما تحتاج للصبر عن المعاصي لقوة الداعي، وضعف النفس، وكيد الشيطان وغروره، وأماني النفس بتقليد الهالكين.
تحتاج للصبر هنا لآفات الذنوب والمعاصي عاجلا، وقبح المورد على الله آجلا.
وتحتاج للصبر على أقدار الله حين تطيش النفس بفقدان الحبيب، وتعلو خفقات القلب للنازلة المفاجئة، وتصاب بالحيرة والاضطراب للمصيبة الجاثمة.
أجل: إن الله يفتح بالصبر والاحتساب على عباده آفاقا لم يحتسبوها، ويغدو البلاء في نظرهم نعمه يتفيؤون ظلالها ويانسون بخالقهم من خلالها، ويتحول الضيق في تقدير غيرهم إلى سعة يغتبطون بها، ولسان حالهم ومقالهم يقول: نخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا، وربما ذهبت إلى مصاب مبتلى معنَّى ـ في نظرك ـ فتجاسرت على تعزيته في مصيبته فكان المعزى هو المعزي وعاد المعزي يذكر لك من أنعم الله عليه ما خفف المصاب عنه وأنسى، فلا اله إلا الله لا يتخلى عن أوليائه في حال الضراء إذا كانوا معه في حال السراء وما أجمل الصبر عدة للمؤمن في حال الشدة والرخاء.
أيها المسلمون: كم تسلينا آيات القرآن بالصبر فلا نرعوي، وكم تحدثنا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونظل بعد في حيرة من أمرنا، ليس عبثا أن يتكرر الصبر في القران وفي تسعين موضعا، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقد عد لها العارفون أكثر من عشرين معنى، ليس تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين إلا نموذجا لها كما قال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [السجدة:24].
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .
وعلق خصال الخير بالصبر فقال تعالى: ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون [القصص:80].
وحكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر فقال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر:1-3].
وقرن الصبر بأركان الاسلام ومقامات الايمان: يا أيها الذين امنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين [البقرة:153]. إنه من يتـق الله ويصبـر [يوسف:90]. إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور [إبراهيم:5]. والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات [الأحزاب:35].
أيها المسلمون: ومن مشكاة النبوة قبس يسلى الصابرين: يقول عليـه الصـلاة والسلام: ((ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)).
وكم هي إضاءة قوله عليه السلام: ((والصبر ضياء)). قال النووي رحمه الله: (والمراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب ). وقيل: أن عاقبة الصبر ضياء في ظلمة القبر، فيصبره على الطاعات والبلايا في سعة الدنيا، جازاه الله بالتفريج والتنوير في ضيق القبر وظلمته) .
وهل علمت أن الصبر من أعلى درجات الايمان .. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أى الايمان أفضل؟ قال: الصبر والسماحة)).
وعلق عليه ابن القيم بقوله: (وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا، وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى أخرها، فان النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه السماحة، وترك ما نهيت عنه، والبعد عنه، فالحامل عليه الصبر).
أجل لقد كان في وصية النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضى الله عنهما: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)) .
يا أخا الاسلام، وعرف السلف للصبر مكانته وقدره، فقال علي رضي الله عنه: (ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد – فإذا انقطع الرأس بان الجسد – ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له).
وقال عمر بن عبد العزيز يرحمه الله: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعو
ضه مكانها الصبر، ما عوضه خيرا مما انتزعه).
وتمثل بعضهم:
صبرت فكان الصبر خير مغبة وهل جزع يجدي علي فاجـزع
ملكت دموع العين حتى رددتها إلى ناظري فالعين في القلب تدمع
اللهم اجعلنا ممن اذا أعطي شكر، واذا ابتلي صبر، واذا أذنب استغفر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:155].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه . . . الخ.
|