اعلم يا عبد الله وفقني الله وإياك للعلم النافع، أن أعظم باب يدخل منه إبليس وجنوده على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بسهولة وأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا غفلة أو نسيان، وقد لبس عدو الله على كثير من المتعبدين لقلة علمهم، بل لأنهم اعتزلوا العلم واشتغلوا بالعبادة ولم يحكموا فيها العلم.
فأول تلبيسه عليهم أن أمرهم بتفضيل التعبد على العلم، ولا شك أن العلم أفضل من نوافل العبادات، بل فضل العلم خير من فضل العبادة، حتى قال بعض السلف: باب من العلم تتعلمه أفضل لك من سبعين غزوة تغزوها. وقال آخر: كتابة حديث واحد عن رسول الله أحب إلي من صلاة ليلة.
فلما لبس عدو الله عليهم هذا التلبيس، وهو ترك العلم وتفضيل العبادة على العلم، تمكّن إبليس من التلاعب بهم في كثير من أنواع العبادة.
فمن ذلك التلاعب الذي بلغ به الشيطان من الجهال ما بلغ: الوسوسة التي كادهم بها في أمر الطهارة والصلاة خاصة عند عقد النية، فمنهم من تراه وتسمعه يقول عند الوضوء: نويت الوضوء، أو نويت رفع الحدث، وسبب هذا التلبيس الجهل بهدي رسول الله في الوضوء وأنه لم يكن يتلفظ بالنية لا في الوضوء ولا في غيره من العبادات، إذ أن النية محلها القلب، ولا حاجة للتلفظ بها.
ومنهم من يلبس عليه في الماء الذي يتوضأ به، فيقول له: من أين لك أن هذا الماء طاهر؟ ويقدّر له فيه ألف احتمال بعيد، ولو أنه كان يعلم من الشرع أن أصل المال طاهر لما ترك هذا الأصل واتبع احتمالات الشيطان.
ومن الموسوسين من لبس عليه الشيطان بكثرة استعمال الماء في الطهارة حتى قال له إبليس: إنك في عبادة إذا لم تصحّ فلا تصحّ الصلاة، والحق أن الإكثار في استعمال الماء هو إسراف وتبذير له، وخلاف شريعة رسول الله . ولربّما بلغ بأحدهم أن أطال الوضوء حتى فاته وقت الصلاة أو فاتته الجماعة، ولو علِم المسكين أن النبي كان يقتصد في الماء حتى أنه ثبت عنه الوضوء مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل كان يتوضأ بمقدار المُد، والمُد أن يملأ الإنسان كفيه، وكان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من إناء واحد فيه أثر العجين، فلو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه وقال: ما يكفيك هذا القدر، والعجين يحلله الماء فيغيّره، هكذا يتتبّع الموسوس كل ما يمليه عليه الشيطان حتى لا تطاوعه نفسه اتباع رسول الله فيجعل عبادته أفضل من عبادة رسول الله والعياذ بالله.
وقد يقول لك الموسوس إنما حملني على الزيادة في الماء الاحتياط لديني، وقد قال رسول الله : ((دع ما يريبك إلى ما لا يرببك)) وقال أيضاً: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه))، فيجاب عليه بأن رسول الله كان مقتصداً في عبادته لربه، وهو أولى بالاتباع كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وقال سبحانه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، وإن من زاد على عبادة رسول الله فهو متعد ظالم لنفسه، مخالف لهدي رسوله، متبع لسبيل الشيطان، فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة.
ومن تلبيس الشيطان على الناس في الأذان التلحين فيه إلى درجة مشابهة الغناء، ومنه أنهم يخلطون الأذان بالذكر والتسبيح والصلاة على رسول الله ، وقد كره العلماء كل ما يضاف إلى الأذان ممّا ليس منه. فينبغي على من يريد الأذان أن يتعلم أحكامه حتى لا يقع في التلحين، وأن يخلص نيته حتى لا يقع في الرياء.
ومن تلبيسه على الناس في الصلاة أن لبس عليهم في نية الصلاة، فمنهم من يقف طويلاً عند إرادة الصلاة فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، نويت أصلي صلاة الظهر فريضة أداء لله أربع ركعات، ثم يصرخ بالتكبير، كأنه يكبر على العدو. فلو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به، فلو كان في هذه الألفاظ خير لسبقونا إليه ولدلونا عليه، فلم يبق بعد الحق إلا الظلال.
ومن الموسوسين من يكبر ثم يشك أنه كبر، فينقض ثم يكبّر ثم ينقض حتى إذا ركع الإمام كبر الموسوس، وركع معه، وما ذاك إلا لأن إبليس أراد أن يفوّت عليه فضل الصلاة، وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، حتى بلغ بأحدهم أنه يحلف بالله ما كبّرت إلا مرة واحدة، بل فيهم من يحلف بالله وبطلاق زوجته أنه ما كبر إلا مرة، وهذه كلها تلبيسات إبليس اللعين عصمنا الله جميعاً منها بالعلم النافع والعمل الصالح، والحمد لله رب العالمين.
|