إخوة الاسلام: وكم هو عظيم شهر الصيام وكم فيه من حكم واسرار يدرك كل صائم منها بحسب علمه وإيمانه وتعبده لمولاه، ويكفيه أنه باب مشرع لكل طرق الخير، من صيام وصلاة وزكاة وصدقة وذكر ودعاء وتلاوة وجود وإحسان وصبر ويقين واحتساب للأجر العظيم ويكفيه أنه طريق للتقوى، والتقوى جماع الخير وسبيل الفلاح والنجاح.
من يتـق الله يجعـل لـه مخرجـاً ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق:2-3].
إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف:90].
كم يكسر باعث الشهوة للنفوس عن السمو، وشهر الصيام يحطم كبرياء النفس بكسر باعث الشهوة في قلب المعاصي وهذا كما قال القرطبي رحمه الله وجه مجازي حسن في تاويل معنى قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183].
وقيل: لتتقوا المعاصي بالصيام، وقيل: وهو على العموم لأن الصيـام كما ورد جنة ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات .
أجل إن الصيام جنة يتقى بها الصائم عن المآثم والسيئات والمهلكات المؤدية إلى النار كما يتقى المحارب بجنة حين القتال فيمنعه القتل ويسلمه من العدو باذن الله.
يجسد هذا المعنى رسول الله صلى الله في اكثر من حديث ويقول: ((الصيام جنة إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم –مرتين-)).
وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: ((الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)).
وفى الحديث الثالث: ((الصيام جنة، وهو حصن من حصون المؤمن)).
إخوة الاسلام: وفى شهر الصيام فرصة للتخفيف من أثقال الأوزار، فيه تطهير للنفوس من الأدران وحماية القلوب من الأدران، وهذه وتلك قد لا يحس بواطأتها إلا من أثقلت نفوسهم المعاصي، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلما حل شهر رمضان وصاموا مع تفريطهم وأحسوا بانشراح صدورهم وخفة أرواحهم وانفراج في كربتهم وأنس بدل وحشتهم، وذلك بفعل الصيام، وكذلك تتنزل الرحمات في رمضان وغير رمضان.
فبشراكم معاشر المسلمين بشهر الصيام يرتفع فيه المؤمنون درجات وتحط به الأوزار عن أهل السيئات.
ولا يزال الصيام بالمسلم يحوطه ويؤنسه حتى يكون شافعا له لدخول الجنة والنجاة من النار يوم القيامة، وكذلك يفعل القرآن يقول النبي : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ويقول الصيام: أى رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه فيشفعان)).
أيها المسلمون: ويدرك من فقه سر الصيام كم لرمضان من أثر على تريبة النفس وعبودية الجوارح بقية العام، ذلكم لأن شهر رمضان يدرب النفس على كثير من خلال الخير فتحيا المراقبة لله ويشيع الصدق في النفوس لصدقها مع الله في الصيام واجتناب الآثام وتتطبع النفوس بالكرم والجود وهوى الإحسان إلى المحتاجين والبر بالأقربين وتتهذب الأخلاق، فلا تسمع الآذان الحرام، ولا تنطق الألسنة بالفحش والسب ورديء الكلام، وتربى الأعين على عدم استدامة النظر في الحرام.
ذلك كله يهدي العارفين والمدركين لأسباب الصوم أن بامكان المرء أن يغير من واقعه، وإن الفساد والحرام ليسا ضربة لازب له وتتحطم أسطورة الشيطان التى يوسوس بها النفوس حين يوحى لأوليائه بنقل الطاعات وصعوبة ممارسة الخيرات وعدم القدرة من الانفكاك من أسر الشهوات وكذلك ينبغي أن يستثمر العاقل هذه التوبة إلى الله وأن يسارع بتغيير واقعه إلى الأحسن بعد رمضان.
ما أحوج الأمة إلى شهر الصيام يأتي ليحسسها بقيمة الوقت وأهمية ملئه بالطاعات .. والصائم الفطن يقضي سحابة يومه في الذكر والتلاوة والصلاة والتحسر على الوقت الذي يضيع دونما فائدة وكذلك ينبغي أن يكون المسلم حريصا على وقته في رمضان وبعد رمضان وأن يتخذ من حفظ وقته في رمضان وسيلة لحفظ أوقاته على الدوام.
وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة ويوحد الصفوف ويؤلف ويفطر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين ودعوة إلى تآخيهم وتوادهم وشيوع المحبة بينهم إنما المؤمنون إخوة. ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
وهذه الوحدة تقلق الأعداء فتراهم يسعون جاهدين لتفريق صف المسلمين، فهل يفقه المسلمون قيمة وحدتهم ويتداعون لجمع كلمتهم، ذلكم جزء من أسرار شهر الصيام، وما يعقلها إلا العالمون.
أيها الصائمون: وشهر الصيام فرصة لمزيد من الاهتمام بتربية الأهل والأولاد على البر والإحسان والتقوى، فحثهم على الصلوات وترغيبهم في الصدقات وتدريبهم على الصيام وتشجيعهم على كثرة الذكر وتلاوة القران وسائر الطاعات، كل ذلك يسير في التربية الواجبة في كل حال، لأن النفوس لديها استعداد في رمضان أكثر من غيره من مواسم البر ومواطن الدعاء وقيام الليل والاستغفار بالأسحار ما قد لا يتوفر مثله في سائر الأزمان.
والأب الناصح هو الذي يستثمر الفرص ويذكر بفضلها، والام الحانية هي التي تشجع على الخير وتآزر الأب في تربية الأبناء، وإذا وقع في أذهان البعض أن الأبوين المثاليين هما من يوفران للأبناء ما يحتاج إليه أبنائهم فذلك غير صحيح، فالأبوة المثالية تتحقق في تربيتهم وحثهم على الخير خاصة في هذه الأيام الفاضلة هو نوع من الغفلة لا تليق، ونتيجته الخسارة لا في الدنيا فحسب بل وفي الدين.
وفانتبهوا لتربية أبنائكم على الدوام خصوصا في هذا الشهر الصيام والقيام بمزيد من العناية والاهتمام، فذلك جزء من واجبكم في وقايتهم من النار قال تعالى: يـا أيها الذين ءامنو قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة .
وفي صلاحهم وتوجيههم نفع لكم في الحياة، وحين ترحلون إلى الدار الأخرى، فابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: الولد الصالح الذي يدعو له، وكم هي مأساة أن ترى الآباء والأمهات في أيام رمضان مع القائمين والراكعين الساجدين .. وأبناؤهم يسرحون ويمرحون، وربما حصلت منهم الأذية للمصلين أو ربما عكفوا وعكفت البنات معهم على مشاهدة ما لايحل أو سماع ما حرم الله والزمان زمان رحمة، الأيام فاضلة، والدعوة مستجابة، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، ومن أساء فعليها.
اللهم ألهمنا رشدنا واهدنا واهد بنا، وتقبل صيامنا وقيامنا، واشرح صدورنا للخير والإيمان ونور قلوبنا بالقران.
|