أما بعد:
فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه بطهارة القلب وتزكيته من أدرانه فقال تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر .
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم كما يقول ابن القيم - رحمه الله - على أن المراد بالثياب هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والاخلاق.
ولئن ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية على ظاهرها، وأن المقصود تطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز معها الصلاة، فقد قيل: إن الآية تعم هذا كله وتدل عليه بطريقة التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظاً، فإن المأمور به , إن كان طهارة القلب فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك.
ومن هنا تعلم أخي المسلم أن أول شيء من عوامل إصلاح القلب طيب المطعم، وطيب الملبس، وكونهما من حلال، وليس بخاف عليك أن خبيث المكسب تحجب دعوته دون السماء, وهو يقول: يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام وغذى بالحرام، فأنى يستجاب له؟ لذلك كما أخبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام: ((اللهم لا تحرمنا فضلك بسبب شح نفوسنا وتجاوزنا الحلال إلى الحرام)).
والبعد عن المحرمات بشكل عام عامل مهم من عوامل صلاح القلوب، وتأمل كيف ربط الله في كتابه العزيز بين طهارة القلب وتزكيته وبين الخلاص والنهى عن عدد من الذنوب، كالنظر والزنا، وهتك عورات المسلمين، قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [النور:30].
وقال تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن يزكي من يشاء والله واسع عليم [النور:28]. قال ذلك عقب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل أن التزكي هو باجتناب ذلك.
وقال تعالى: - في آية ثالثة – وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ( [النور:29].
قال ذلك في الاستئذان على أهل البيوت، فإنهم إذا أمروا بالرجوع فامتثلوا ولم يطلعوا على عورة لا يحب صاحب المنزل أن يطلع عليها، كان ذلك من تزكية القلوب، ومن عظمة هذا الدين.
إخوة الايمان: والأصل في ذلك كله غض البصر، وعدم إطلاقه في المحرمات والعورات، وقد قيل:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال العارفون: إن غض البصر يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:
أحداها: حلاوة الايمان ولذته فإن من ترك شيئاً لله يوجب خيراً منه، ذلكم أن العين رائدة القلب، فإذا أطلق الانسان بصرة في المحرم تعلق قلبه به، فيصير القلب عبداً لمن لا يصلح أن يكون عبداً له، وحينئذ يقع القلب في الأسر ويصبح أسيرا بعد أن كان ملكاً, ومسجوناُ بعد أن كان حراً طليقاً. وتبدأ همومه وشكواه وصبابته وغرامه وعشقه في غير الله، وهكذا يتوزع قلبه وينصرف عما خلق له، وهذا إنما تمتلىء به القلوب الفارغة من حب الله والاخلاص له، إذ القلب لابد له من تعلق، وفرق بين من تعلق بالله فهداه، وبين من تعلق بغير الله فرفضه وأرداه.
الفائدة الثانية لغض البصر للقلب أنه يورثه النور وصحة الفراسة: وقد عقب الله قصة لوط عليه السلام بقوله: ) إن في ذلك لآيات للمتوسمين [الحجر:75]( وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة .. هذا في فراسة القلب، أما نوره فقد قال تعالى عقب أمره إلى المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم الله نور السموات والأرض [النور:35]. وتفسير هذا كما قال ابن القيم - رحمه الله - أن الجزاء من جنس العمل فمن غض بصره عن المحرمات أطلق الله بصيرته وقلبه، فرأى به مالم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله.
أما الفائدة الثالثة من فوائد غض البصر للقلب فهي أنها تورثه كذلك قوة وثباتاً وشجاعة , وقد قيل في الأثر: إن الذي يخالف هواه يفر الشيطان من ظله. أما المتبع لهواه والمطلق عنان شهواته فيوجد عنده من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه, وقد قضى الله بالعزة لمن أطاعه وأتقاه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون:8]. وقال تعالى: من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً [فاطر:10].
أخي المسلم مهما طلبت العزة فلن تجدها في غير طاعة الله ومهما طال أمد تجاربك فستعود صفر اليدين من العزة مادمت للمعاصي ملازماً، وللطاعات مقلاً، قال بعض السلف: (الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة الله).
ايها الاخوة ومهما تبلغ عزة أصحاب المعاصى فهي سراب خداع وهي أنس للحظات، ويعقبها هم لعدة ساعات، وقال الحسن: إنهم ولئن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
أمة الإسلام: ومن أنفع الأدوية لعلاج مرض القلب القرآن الكريم، وقال الله تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور [يونس:75].
وقال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [الإسراء:82].
وحاصل ذلك أن جماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ففيه البينات والبراهين القاطعة ما بين الحق والباطل، فتزول أمراض الشبه المفسده للعلم والتصور والإدراك، وليس تحت السماء كتاب متضمن لبراهين والآيات من التوحيد وإثبات المعاد والنبوات ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن .. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك .. ولكن ذلك موقوف على فهمه، ومعرفة المراد منه، فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عياناً بقلبه كما يرى الليل والنهار .. وكما يرى الشمس ليس دونها سحاب.
وأما شفاء القرآن من مرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتنديد في الدنيا والترغيب في الآخرة .. فيرغب القلب السليم فتجده محباً للرشد مبغضاً للغي .. وهكذا يعود القلب إلى فطرته التي فطره الله عليها، فلا يقبل إلا الحق، ولا يفعل إلا الخير، وهكذا يزكو القلب ويطيب وتنساق له الجوارح بعمل الصالحات.
وباختصار فالقرآن يذهب ما في القلوب من أمراض، من وشك ونفاق وشرك وزيغ، وقيل: ليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه.
وفى القرآن الكريم كذلك شفاء للأجسام إذا رقيت به وفيها بلاء كما يدل على ذلك اللديغ الذي رقى بالفاتحة وهي رواية صحيحة ومشهورة .
إخوة الايمان: وهذا العلاج القرآني يدعونا إلى المزيد من الاهتمام بكتاب الله وتلاوته وتدبر معانيه، ولن يخيب شخص طلب الدواء مظانه الحقيقة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، فاستجيبوا له واطلبوا الشفاء منه، وتعرضوا لنفحاته وهو تعالى مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء.
قال الله تعالى: ) ياأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنكم إليه تحشرون [الأنفال:24].
أتدرون كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ قال ابن عباس رضى الله عنهما: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر والايمان. وقال السدي: المعنى: لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه .
ومن هنا نعلم - معاشر المسلمين - أهمية الدعاء والتضرع لله في إصلاح القلوب واستقامتها على منهج الله, وقد كان خير البرية صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء وخاصة لإصلاح القلب ويقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
وحين سئل عن سر إكثاره من ذلك أجاب بقوله: ((إن القلب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها كيف يشاء)) وفى رواية: ((فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه))، فنسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأقول هذا وأستغفر الله. . .
|