أما بعد:
فاتقوا الله يا معشر المسلمين، وقوموا بأمره، واجتنبوا نواهيه.
إخوة الإيمان: إن اللحظات التى يقف المرء فيها متأملا متفكراً لهي من أسعد اللحظات وأنفعها ذا أوتي الإنسان عقلا حصيفا ومنطقاً سليماً .. ذلكم أن الإنسان في هذه الحياة أشبه بسائر فوق ظهر سفينة، تمخر به عباب البحر، فهو إن لم ينتبه لمسيرتها، ويتجنب أسباب عطبها، ويحذر الصوارف التى يمكن أن تصرفها عن طريقها، فلا شك أن مصيرها إلى الغرق، ومصيره هو إلى الهلاك.
وأينا الذي لا يصدق بالموت، بل أينا الذي يستبعد نزوله في أي لحظة؟ لقد للحقيقة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((غرز عوداً بين يديه، وآخر إلى جنبه وآخر بعد، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان، وهذا الأجل – أراه قال – وهذا الأمل فيتعاطى الأمل، ويختلجه الأجل دون الأمل)).
ولقد عقل الصحابة والسلف الصالح من بعدهم – رضي الله عنهم أجمعين – هذه المعاني، وقدروها حق قدرها، فسارت حياتهم العملية وفق هذه الموازين والقيم، وحذروا من بعدهم من الاغترار والغفلة.
قال علي رضي الله عنه: إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصد عن الحق.
وقال عون: كم من مستقبل يوم لا يستكمله، ومنتظر غداً لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.
أيها المسلمون: لا يعني التأمل في قصر الأمل، السكون والاستسلام أو الكسل والإحجام، بل إن ذلك ينبغي أن يدفع إلى العمل والجدية وحث الخطى .. لكن أي عمل .. وأي جدية .. هل في جمع حطام الدنيا الفاني؟ لا .. فالدنيا لا تستحق هذا الجهد وهذا العناء0.. ويكفي الإنسان ما يسد رمقه، ويكسو جسده، ويغنيه عن الآخرين .. وإنما عمل الصالحات هو الميدان الذي ينبغي أن تشمر له سواعد الجد، ويتسابق فيه المتسابقون .. وكلما طال العمر وإزداد العمل الصالح دل على توفيق الله للعبد، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي الناس خير؟ فقال: من طال عمره وحسن عمله، قيل: وأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله)).
وهل علمت يا أخا الإيمان أن العبد ربما بلغه الله منازل الشهداء، وربما زاد عليها – بسبب كثرة عبادته وطول عمره – حتى وإن مات على فراشه، وإليك ما يؤكد ذلك من مشكاة النبوة، فعن عبيد بن خالد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر، فصلوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قلتم؟ قالوا: دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين صلاته بعد صلاته وعمله؟ أو قال: صيامه بعد صيامه، لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)).
أرأيتم فضل الله وعظيم أجر الصالحات، وقد ورد في بعض روايات الحديث أن الفرق بين وفاتهما جمعة أو نحوها .. ألا فيعد العاملون، وليستيقظ النائمون، وينتبه الغافون.
وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو القائل: ((إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله، فقيل: وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت)).
اللهم وفقنا لعمل صالح ترضاه عنا واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقاك.
أيها الإخوة: لابد من تدقيق العمل وتجويده، ولابد من إخلاص العمل وتصويبه، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، ومن أشرك مع الله غيره تركه الله وشركه، وأحبط عمله، فانتهوا – رحمني الله وإياكم ووفقنا – للإخلاص، فهو أساس قبول العمل أو رده.
وما أحوجنا جميعاً إلى أن نتذكر فصة شفي الأصبحي – رحمه الله – مع أبى هريرة رضي الله عنه، ((فقد دخل شفي المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت، وخلا قلت له: أسألك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، أحدثك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، فمكثنا قليلاً، ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثاً رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم أفاق، ومسح وجهه، وقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته طويلاً، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله: أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة، ينزل إلى العباد ليقضى بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلي يارب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار، فيقول له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك.
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يارب، قال: فماذا عملت فيما آتيك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، فيقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد وقد قيل ذلك.
ويؤتى بالذى قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيماذا قلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جرئ، فقد قيل ذلك.
ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)).
وقصة شفي لا تنتهى عند هذا الحد فهو يعقل هذا الحديث، ثم يدخل على معاوية رضى الله عنه في خلافته، فيخبره بهذا الحديث العظيم ويبكيه، ويقول معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا؟ كيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديداً حتى ظن أنه هالك، وقال من حوله: قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود :15-16].
هكذا فهم الصحابة ومن بعدهم هذا الحديث، وتأثروا به، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل وجنبنا الرياء والسمعة والزلل.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم لسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
|