أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله العظيم واجتناب الإثم ما ظهر منها وما بطن ولا تنسوا أنكم مسافرون وعن هذه الدار راحلون، فالدنيا دار معبر، والآخرة دار مقر، فإما إلى النعيم أو إلى الجحيم، قال تعالى: فريق في الجنة وفريق في السعير ، وما أدراك ما سقر لاتبقي ولا تذر ، فمن أراد أن يتزود فإن خير الزاد التقوى .
ومن التقوى المناصرة مع الله بالإصلاح بين الناس قال الله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك إبتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ، وقال تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً ، وقال تعالى: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلاجناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً .
وقال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
وقال تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين .
هذا كتاب الله يحثكم بالترغيب والترهيب في الإصلاح بين الناس، فتارة يرغب في الصلح بين الناس إبتغاءً لمرضاته بأنه سوف يؤتيه أجراً عظيماً، وتارة يخوف المتنازعين والمصلحين بأنه يراقبهم ويعلم سرهم ونجواهم إن الله كان عليماً خبيراً ، فإن الله كان بما تعملون خبيراً .
عباد الله: إن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة، فعن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ناباه فقال عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال : ((رجلان من أمتي جيئا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما: يارب خذ لي مظلمة من أخي، قال الله تعالى أعط أخاك مظلمته، قال: يارب لم يبق من حسناتي شيء، قال: رب فليحمل عن أوزاري، قال: ففاضت عينا رسول الله بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يارب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة بالؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه، قال: يارب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملك ثمنه، قال: ماذا يارب؟ قال: تعفوا عن أخيك؟ قال: يارب فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخلا الجنة))، ثم قال رسول الله : (( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ))، وروى البزار عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: ((ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى يا رسول الله: قال: تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا)).
يقول الإمام النووي رحمه الله: أعلم أن الإختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته هو المختار الذي كان عليه رسول الله وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين وخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين، قال الله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى نعم: إن فضل الإختلاط بالناس وحضور جمعهم وجماعاتهم ومشاهد الخير ومجالس الذكر معهم وعيادة مريضهم وحضور جنائزهم ومواساة محتاجهم وإرشاد جاهلهم وغير ذلك من مصالحهم لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع نفسه عن الإيذاء أمر عظيم وأجره جزيل، فوطنوا أنفسكم رحمكم الله على مناهج الأنبياء والعلماء والصالحين واحذروا غيرها من المناهج فإنها من مزالق الشيطان التي تؤدي إلى ذل الدنيا وخزي الآخرة.
فيامن يريد الأجر العظيم من الله مالك لاتصلح بين جيرانك؟ ويا من يطلب الرحمة من الله مالك لاتوفق بين إخوانك؟ ويا من كان يؤمن بالله وثوابه واليوم الآخر وأهواله مالك لاتعمل على إصلاح ذات بين المسلمين؟.
أيسكت أهل العلم والوجاهة عن التنازعات بين الجيران والإخوان حتى تشتد الخصومة؟ أتترك الخلافات العائلية حتى تكون من المسائل القضائية؟ إن مسؤلية أهل العلم والوجاهة في جلب الألفة ودفع الفرقة مسئولية عظيمة عليهم أن يتحملوها، وإلا فليعلموا أنهم ضيعوا جزءاً كبيراً من الأمانة التي تحملوها، فكم من زوجة نفرت من زوجها وعشها لأتفه الأسباب؟ وكم من أخ قطع رحمه من إخوانه وجيرانه لعرض من الدنيا زائل ؟، وكم من جماعة أو قبيلة شغلت القضاة والمحاكم والدولة بأمور عادية، كل ذلك سببه غياب أهل الإخلاص والنباهة عن مكانتهم، وترك أهل العلم والحجة لمسئولياتهم.
إنه لابد للمصلح بين الناس أن تتوفر فيه شروط عامة وأخرى خاصة لتخوله السفارة بين المتنازعين أو التوفيق بين المتخاصمين وإعادة المودة والرحمة بين الزوجين، من هذه الشروط:
1 – أن يقوم بالإصلاح إبتغاء مرضات الله.
2 – وأن يكون الإخلاص لله وطلب الحق هو باعثه على الإصلاح.
3 – وأن يكون له مكانة كبيرة عند المتنازعين لعلمه وورعه.
4 – نصافة ورجاحة عقله.
عباد الله: إن الصلح يثمر مالا يثمر الحكم القضائي، إنه يثمر إحلال الألفة مكان التفرقة، ويستأصل داء المنازعات قبل أن تستفحل المنازعات والخصومات، إنه يوفر الأموال التي تنفق في المحامات بالحق أو بالباطل، إنه يترك سوق شهادة الزور والرشاوي كاسدة، ويعين على التفرغ للمصالح العامة والخاصة، هذا على مافيه من الأجر العظيم للمصلحين والمتصالحين، وصدق الله العظيم اذ يقول: والصلح خير .
|