إخوة الإسلام:
نواصل اليوم حديثنا في سيرة عبد الله بن المبارك رحمه الله وجوانب القدوة في حياته، وقد سبق أن ذكرنا الدروس المستفادة من حياته العلمية، وتبقى جوانب كثيرة للاقتداء في حياة هذا الرجل.
فمنها عبادته وخشيته لله تعالى لنرى فيه مصداق قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء وهذا هو العلم النافع، الذي يقود إلى خشية الله تعالى، ورحم الله ابن مسعود إذ يقول: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا.
وقال القاسم بن محمد: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل علينا هذا الرجل حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج، قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام نتعشى في بيت إذ طفيء السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وأخذ يبحث عما يوقد به المصباح، فمكث هنيهة، ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.
وقال سويد بن سعيد: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى شربة ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابن أبي المنوال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له)) وهذا أشربه لعطش يوم القيامة.
وقال نعيم بن حماد: قال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة القرآن في ركعة، فقال: لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر: ((ألهاكم التكاثر)) إلى الصبح ما قدر أن يتجاوزها، يعني نفسه.
وقال نعيم أيضا: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش، فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه.
وقال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا، قال: أجلس مع الصحابة والتابعين وأنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
ويروى عنه رحمه الله أنه قال:
اغتنم ركعتين زلفـى إلى الله إذا كنت فـارغـا مستـريحـا
وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكـانـه تسـبيـحــا
فاغتنام السكوت أفضـل من خوض وإن كنت بالكلام فصيحا
ولذا قال نعيم: ما أريت أعقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا في العبادة منه.
ومن كلامه رحمه الله: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة، وفضلٍ قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت يراها هدى، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
سمع بعضهم ابن المبارك وهو ينشد على سور طرسوس:
ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا يرى لك عن هواك نزوح
العبد عبد النفس في شهواتها والحـر يشبـع مـرة ويجـوع
وقال الخليل أبو محمد: كان عبد الله بن المبارك إذا خرج إلى مكة قال:
بغض الحياء وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق، يصير كأنه ثور منحور، أو بقرة منحورة من البكاء، لا يجتري أحد منا أن يسأله عن شيء.
وكان رحمه الله مستجاب الدعوة، قال العباس بن مصعب حدثني بعض أصحابنا قال:
سمعت أبا وهب يقول: مر ابن المبارك برجل أعمى، فقال هل: أسألك أن تدعو لي أن يرد الله علي بصري، فدعا له، فرد عليه بصره وأنا أنظر.
ومن جوانب القدوة في حياة ابن المبارك رحمه الله: جهاده في سبيل الله ابتغاء رضى الله عز وجل، فلم يغتر بعبادته ويتكل عليها فيترك الجهاد، وكان ينصح أصحابه ألا تقطعهم العبادة عن الجهاد فكتب إلى الفضيل بن عياض رحمه الله قائلا:
يا عـابد الحرمين لو أبصرتنـا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعـه فنحورنـا بدمائنـا تتخضب
أو كان يتعب خيلـه في باطـل فخيولنا يوم الصبيحـة تتعب
ريح العبير لكن ونحن عبيرنـا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقـد أتانـا من مقـال نينـا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله فـي أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتـاب الله ينطـق بيننـا ليس الشهيـد بميت لا يكذب
وقال عبيدة بن سليمان المروزي: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصاففنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فبارزه ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا!!
وقال عبد الله بن سنان: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج رومي، فطلب البراز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان، إن قتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج معالجه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة علوج وطلب البراز، فكأنهم كاعوا عنه، أي جبنوا وتهربوا فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء، فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله لا تحدث بهذا أحداً وأنا حي فذكره عبد الله بعد موته.
وقال محمد بن الفضيل بن عياش: رأيت ابن المبارك في النوم، فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الأمر الذي كنت فيه، قلت: الرباط والجهاد؟ قال: نعم، قلت: فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة.
اللهم بصرنا بعيوبنا، وقنا شر أنفسنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا وأصلح فساد قلوبنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|