إخوة الإسلام: كلنا نقع في الذنوب والمعاصي لا يسلم أحد من صغير أو كبير، مع اختلاف وتباين، فمستقل ومستكثر، فمن الناس من يظلم نفسه ظلماً تكفره الصلوات والعبادات والأعمال الصالحة، يقول الله جل وعلا: أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما ظلم العبد نفسه بصغائر الذنوب والمعاصي من غير إصرار فذلك تكفره آيتا النساء والنجم) اهـ يقول الله جل وعلا في سورة النساء: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ويقول الله جل وعلا في سورة النجم: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى .
فالصغيرة التي لا يصر عليها صاحبها هي من هذا اللمم الذي يغفره الله بالصلوات والأعمال الصالحة وبشرط اجتناب الفواحش والذنوب الكبار.. كما اشترطت الآيتان.
وأما دليل شرط عدم الإصرار لمغفرة هذه الصغائر بالصلوات والأعمال الصالحة لأن عموم قوله تعالى في سورة آل عمران: ولم يصروا على ما فعلوا وهو يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم .
وهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أنه قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في أعلى مراتب الكبائر، وهذا مرجعه إلى ما يقوم في القلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والعبد يعرف ذلك من نفسه ومن غيره، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولذلك قال بعضهم: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
وقد تشتد غفلة صاحب الذنب حتى إنه ليفرح إذا ظفر بشهوة أو إذا فعل المعصية مما يدل على شدة الرغبة فيها والجهل بعظمة من عصاه والجهل بخطر المعصية وبسوء عاقبتها، فالبعض يظن أنه إذا فعل المعصية فلم يجد أثرها على الفور فإنه لن يجده بعد ذلك كما قال ابن القيم رحمه الله، يزعم بعضهم أن هذا على حد قول القائل:
إذا لم يغبِّر حائط في وقوعه فليس لـه بعد الوقوع غبار
وقد نسي الكثير أن شؤم المعصية يدرك العبد ولو بعد أربعين سنة.
نظر أحدهم نظرة محرمة، نظر نظر شهوة إلى من لا يحل له النظر إليه بشهوة ثم قال لنفسه: لتجدن غبها ولو بعد حين قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وقد لا يظهر شؤمها إلا في آخر لحظات الحياة على فراش الموت حيث تسوء الخاتمة. قال عبد العزيز بن أبي روَّاد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر. وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
ولا يقتصر شؤم المعصية على العبد اللاهي بل يمتد شؤم معصيته على من حوله فيخيم هذا الشؤم على قومه الذين اندس فيهم، ولذا قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .
هنا قصة مؤثرة وقعت في بني إسرائيل، وليس فيها ما يخالف شرعنا، فهي مما أذن لنا أن نحكيه عن بني إسرائيل، فقد روي أنه لحق بني إسرائيل قحط – يعني الجدب وامتناع المطر- على عهد موسى عليه السلام، فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث، فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهي، اسقنا غيثك وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والشيوخ الركع، فما زادت السماء إلا تقشعاً والشمس إلا حرارة – ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى-.
فتعجب موسى عليه السلام وسأل ربه عن ذلك فأوحى ربه إليه: إن فيكم عبداً يبارزني أربعين سنة بالمعاصي، فنادِ في الناس حتى يخرج من بين أظهركم، فقال موسى: إلهي وسيدي، أنا عبد ضعيف، صوتي ضعيف فأين يبلغ وهم سبعون ألفاً أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه: منك الدعاء ومنا البلاغ، فقام منادياً وقال: يا أيها العبد العاصي، الذي يبارز الله منذ أربعين سنة – بالمعاصي- اخرج من بين أظهرنا، بشؤم معصيتك منعنا المطر، فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال، فلم ير أحداً خرج، فعلم أنه المطلوب فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا المطر من أجلي، فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله وقال: إلهي وسيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً فاقبلني، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب، فقال موسى: إلهي وسيدي، بماذا سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى سقيتم بالذي منعتكم به –أي الرجل نفسه- فقال موسى: أرني هذا العبد الطائع، فقال: يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني؟
يـا من إذا وقف المسيء ببابـه ستـر القبيح وجاد بالإحسان
أصبحت ضيف الله في دار الهنا وعلى الكريم كرامة الضيفان
ألا ما أعظم فضل الله وحلمه وستره على عبده!
تأملوا أيضاً كيف يؤثر ظلم العبد لنفسه على من حوله.. ألا ما أشبهنا في هذه الحياة براكبي السفينة .. التي تتأثر ويتأثر جميع راكبيها بما يحدثه أحدهم فيها من خرق أو ثقب. .. حتى لتوشك السفينة كلها أن تغرق بفعل واحد فيها.. ونحن ننسى هذا المثال كثيراً في حياتنا فقد ينقد كل واحد منا إخوانه ومجتمعه، وينسى أنه بمعصيته وبذنبه أحد أسباب الشؤم على هذا المجتمع.
وقد ننقد على صعيد آخر دعوتنا ومسيرتها وقادتها في الوقت الذي يفعل كل منا في السفينة ما يحلو له.. وإذا كان كل منا مصرٌ على أن يفعل في السفينة ما يحلو له من نقب وشرخ فلا يسوغ منه أن ينقد قائد السفينة إذا لم يستطع أن يسلك بها المسلك السوي في الأمواج المتلاطمة.
إذن فالمعصية لها شؤمها على الفرد والمجتمع.. والأمر جد خطير فما المخرج إذن حتى لا يدركنا أو لا يستمر بنا هذا الشؤم؟ ومن قبل أن نندم حين لا ينفع الندم؟
المحرج واضح جلي في قوله جل وعلا: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذي كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون .
فالمخرج إذن هو التوبة الصادقة والتوبة النصوح، وكلنا يدعي التوبة وما أكثر ما نتوب ثم نعود، وما أكثر ما نعاهد الله على ترك أمر فنعود إليه أسرع ما نكون.
وقد أمرنا أن نلتمس التوبة على عجل ولا نؤخرها إلى الموت حيث لا تنفع، وما دام الموت متوقعاً في كل لحظة فالتوبة واجبة على الفور قال عز من قائل: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً .
ولهذا فقد دعا الله عباده إلى التوبة في سبعة وثمانين موضعاً في كتابه العزيز، والتوبة كما أنها واجبة على الفور فهي واجبة على الدوام لأن العبد لا يخلو من معصية أو فتور فإنه إن خلا عن المعصية بالجوارح لم يخل عن الهم بالقلب، وإن سلم من الهم بالقلب لم يسلم من ورود الخواطر المذهلة عن ذكر الله عز وجل، فإن خلا عن ذلك لم يخل عن الغفلة عن التذكر في عظمة الله ومدلولات أسمائه وصفاته.. كل ذلك غفلة وانقطاع عن الله يستدعي التوبة.. نعوذ بالله من الانقطاع عنه والغفلة عن عظمته وحقه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
|