أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
إخوة الإسلام :
يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فكل ذنب مهما كان قد يتجاوز الله عنه لمن يشاء، لأن الشرك ظلم عظيم وإساءة بالغة في حق الله جل وعلا.
وإن مما يفزع القلب أن ذلك الشرك الذي لا يغفره الله قد قال بعض العلماء: إنه يشمل الشرك الأصغر كما يشمل الشرك الأكبر، وأشار ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك بقوله : قد يقال الشرك لا يغفر منه شيء، لا أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن.
وإن صاحب الشرك، أي الأصغر، يموت مسلما، لكن شركه لا يغفر له، بل يعاقبه عليه .
ومع ذلك فالآية تحتمل القول الآخر أي شمولها للشرك الأصغر كذلك، ولهذا قال ابن عثيمين حفظه الله : وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقا، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر، لأن قوله: أن يشرك به أن وما بعدها- كما يعلم الذين يفهمون النحو أو قواعد اللغة العربية- في تأويل مصدر تقديره: إشراكاً به،أي إن الله لا يغفر إشراكا به، والنكرة في سياق النفي فتفيد العموم . هذا كلام ابن عثيمين حفظه الله.
أقول إن هذا مما يفزع القلب ويخيف النفس، لأننا لو علمنا المراد بالشرك الأصغر ما ظن واحد منا أن ينجو منه، ومع ذلك فنحن -إلا من رحم الله -غافلون عن التوبة منه والإقلاع عنه .
قال العلامة السعدي في تعريف الشرك الأصغر: هو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها، إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لم يبلغ رتبة العبادة، كالحلف بغير الله ويسير الرياء، ونحو ذلك .
يا للهول، الحلف بغير الله الذي يدور على الألسنة ليل نهار، الحلف بالنبي، والحلف بالأنبياء، والأمانة وبالشرف، والحلف بحياة فلان وعلان .
ويسير الرياء الذي يندر أن يمر يوم ولم نتلبس به إلا من رحمه الله، فاليسير منه أي الخفي والقليل شرك أصغر، فكيف بالكثير الظاهر هو إظهار بعض العبادات أو الأمور الشركية وتحسينها بقصد نيل ثناء الناس أو إعجابهم.
وعرفت فتاوي اللجنة الدائمة في الشرك الأصغر بأنه كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركا .
وعلى رأس القائمة الرياء، فهو على رأس قائمة الشرك الأصغر، ونص عليه النبي فيما رواه أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد أن رسول الله قال : ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، فسئل عنه فقال : الرياء [حسن ابن حجر إسناده في بلوغ المرام ] وقال المنذري إسناده جيد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال عبد الله بن شبيب بن خالد وهو ثقة – هامش القول المفيد 1/144.
وروى الإمام أحمد عن شداد بن أوس قال : كنا نعد الرياء على عهد رسول الله الشرك الأصغر، صححه الألباني في صحيح الترغيب (572فتح المجيد) .
ولأحمد بن أبي سعيد مرفوعا (( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال، قالوا : بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل )) حسنه الألباني في صحيح الترغيب صحيح الجامع، فتح المجيد ص57.
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال : ((خرج علينا رسول الله فقال: أيها الناس إياكم وشرك السرائر، قالوا : يا رسول الله وما شرك السرائر، قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر)).
وعن شفي بن مانع الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال : من هذا، فقالوا : أبو هريرة، قال، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت، أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثنا سمعته من رسول الله عقلته وعملته،قال، فقال أبو هريرة : أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله في هذا البيت، ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفا وخوفا ثم أفاق، فقال : لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم مال خارا على وجهه، واشتد به طويلا، ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله : ((إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة لقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل سمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال : بلى يا رب، قال : فماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم آناء الليل والنهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى مل أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال : بلى يا رب، قال : فما عملت فيما آتيك، قال : كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جواد، فقد قيل ذلك، ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقال له : بماذا قتلت فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له : كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جري، فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم الناس يوم القيامة)). والحديث إسناده صحيح عن الألباني في صحيح الترغيب 1/13-15 وصحيح الجامع كما في ملحق فتح المجيد ص 572-573
وقد دخل شفي راوي هذا الحديث على معاوية ، وكان سيافا لمعاوية، فدخل عليه فحدثه بهذا الحديث عن أبي هريرة، فقال معاوية : وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديد حتى ظننا أنه هلك، وقلنا : قد جاء هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية عن وجهه فقال : صدق الله ورسوله: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذي ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون .
تأملوا إخوة الإسلام تلك الأعمال المذكورة في الحديث، قراءة القرآن وتعلم العلم وتعليمه والتصدق والجهاد، أعمال عظيمة لكنها قد لا تسلم من آفة الرياء.
وللرياء صور كثيرة أشار إليها أهل العلم مثل التمتمة وتحريك الشفتين بين الناس بدون ذكر فعلي، أو مع الذكر لكن مع تعمد إظهار ذلك لنيل ثناء الناس بخلاف من قصد اقتداء الناس به وتنبيهم لذلك.
ومن صور الرياء، أن يسأل بعض أهل العلم أسئلة معينة لم تدع إليها حاجة ليرى مكانه ويعرف إطلاعه يذكر إنجازاته إلى غير ذلك من مسالك الرياء.
وكل إنسان على نفسه بصيرة، فعليه كفها عن ذلك ومحاسبتها وأن يستعيذ بالله أن يشرك به شيئا يعلمه، ويستغفره لما لا يعلمه، أعاذنا الله وإياكم من الرياء، ورزقنا الإنابة إلى الله والإخلاص .
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . .
|