عباد الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيع جنازة يوما، فلما وصلوا إلى القبر ووضعت الجنازة، وأخذ الناس يهيلون عليها التراب جلس عليه الصلاة والسلام وأخذ عودا وجعل ينكت به في الأرض وينظر إلى القبر ثم قال للصحابة رضوان الله عليهم: ((يا إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا)).
أيها المسلمون: هل تذكرنا الاحتضار وآلامه؟ هل تذكرنا الموت وسكراته الموت؟ تلك الساعة الحاسمة تلك الساعة الفاصلة التي يقف فيها البشر عاجزين مقهورين أمام الموت الذي يشرب من كأسه جميع الخلق، العصاة منهم والمطيعون، الطغاة والعاملون، الفقراء والميسورون، الضعفاء والمتسلطون، الموت الذي لا يهاب شيخا كبيرا، ولا يترك طفلا صغيرا ولا يخشى أميرا أو وزيرا، الموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد ولا يعجزه مقيم، ولا يتفلت منه هارب، هو رحى دوارة بين الخلق، وكأس يشربونها، هو هادم اللذات، ومنغص الشهوات، ومفرق الأحبة والجماعات.
هل تذكرنا تلك الساعة التي سيأتينا فيها ملك الموت ومعه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب فيقف عند رأسك ثم يبدأ في نزع روحك من جسدك فيبدأ الرأس يرتعد، والأطراف تبرد، والعين تشخص، واللسان يغرغر، فإن كنت مؤمنا صالحا قال ملك الموت: أخرجي أيتها الروح المطمئنة، أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان، فيسيل روحك كما تسيل القطرة من فم السقاء، فتأخذها ملائكة الرحمة، ولا تتركها في يده طرفة عين، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة ويطيبونها بحنوط من حنوط الجنة ثم يصعدون بها إلى السماء ويستفتحون لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائك حتى السماء السابعة ثم يقول الله عز وجل: اجعلوا كتاب عبدي في عليين.
وإن كان العبد فاسقا أو كافرا قال الملك: أخرجي أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى حميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فينزع روحه كما تنزع الشوكة من الصوف المبلول، فتأخذها ملائكة العذاب ولا يدعونها في يده طرفة عين، فيضعونها في كفن من أكفان النار وحنوط من حنوطها ثم يصعدون بها إلى السماء ويستفتحون لها .. فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه فلا يفتح.
فماذا أعد كل منا أيها المسلمون لتلك الساعة الرهيبة والنازلة العظيمة، والله إن كثرا من الناس عن الموت لغافلون، وفي الشهوات غارقون، وللمعاصي مرتكبون، وللصلاة تاركون وللزكاة مانعون، وللحرمات ناظرون، وللسحت والرشاوي آكلون، وللفواحش منتهكون، وللقرآن هاجرون، وللسنة تاركون، وبالحرام يتكلمون، وبالظلم يتعاملون، ومن المواعظ لا يبكون، ويبنون القبور ويدفنون الموتى ثم لا يتعظون، ولا هم يتوبون، ترى الفاجر يدفن الميت بيده ثم يمضي إلى فجوره، والعاصي يصر على معصيته، قست القلوب، وجفت العيون، وانشغل الناس بذكر الدنيا عن ذكر الآخرة قال تعالى: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم .
أيها المسلمون: إن غفلة كثير منا عن الموت ترجع إلى أنهم لا يدركون خطورته ولا يفهمون معناه ولا يعلمون ما بلحظات الموت من عظائم وأهوال ولا يدركون ما به من مصائب ودواهي، الواحدة منها يشيب لهولها الوليد وينصهر لشدتها الحديد.
وأول تلك الدواهي ساعة الاحتضار وما بها من آلام ونزعات وما يصحبها من غرغرة وسكرات، لا يقوى المحتضر من شدتها أن يتأوه ولا يستطيع من قوتها أن يخرج صراخا سئل أحد الصالحين وهو يحتضر كيف ترى الموت؟ قال: أرأيت الشاة الحية عند سلخها كيف يكون حالها؟
وعاد بغضهم مريضا فقال له: كيف تجدك؟ قال: هو الموت فقال له: وكيف علمت أنه الموت؟ قال: أجدني أجذب جذبا، وكأن الخناجر في جوفي، وكأن جوفي تنور محمي يلتهب فقال له: فأعهد – أي أوصي – قال: أرى الأمر أعجل من ذلك، فدعى بدوارة وصحيفة ليكتب وصيته قال الرجل: فوالله ما أوتي بها حتى شخص بصره فمات، وذلك لأن الروح تخرج من كل طرف من أطراف الجسد ومن كل عضو من أعضائه ومن كل خلية من خلاياه.
ويقول العلماء إن سكرات الموت أشد من نشر بالمناشير وضرب بالسيوف، وما لنا نذهب بعيدا وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه الإعياء الشديد وأخذ عليه بها ماء، فجعل يمسح وجهه به ليخفف من وطأة الموت وشدته ويقول: ((لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم بالرفيق الأعلى)) ثم شخص بصره ومالت يده وشغلت رأسه وقبض صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الموت، وهو الذي رفع الله ذكره وأعلى في العالمين قدره، فكيف سنواجه نحن الموت وقد كثرت ذنوبنا وطفحت عيوبنا وانتشرت معاصينا، كيف سنكون في تلك اللحظات ونحن بهذه الذنوب والسيئات.
أما المصيبة الثانية والداهية التالية في الموت فهي شدة الحسرة والندم التي يشعر بها المحتضر، فالواحد منا يبقى طوال حياته غافلا ساهيا ينتهك الحرمات يمينا وشمالا لا يبالي حتى إذا فاجأه الموت عرف وقتها أن الله حق وأن الحلال بيّن وأن الحرام بيِّن، فتتولد عنده حسرة شديدة وندم عظيم على ما فاته في حياته، ويتمنى لو يعود فيصلح من شأنه ويكثر من الطاعات، ولكن للأسف الشديد فبرغم شدة حسرته وندمه إلا أنها حسرة لا تنفع، وندم لا يقبل، قال تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً . ولو قبل الله عز وجل توبة أحد بعد غرغرة الموت لقبل توبة فرعون عندما أحاطت به الأمواج حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فماذا كان جواب الله عز وجل له: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون .
كان يزيد الرقاشي يعظ نفسه كل ليلة عندما يجدها تكاسلت في الطاعة فيقول: يا يزيد من ذا يصلي عنك بعد الموت، يا يزيد من ذا يصوم عنك بعد الموت، يا يزيد من ذا يتصدق عنك بعد الموت.
وأما ثالثة الدواهي والمصائب في الموت فهي أن الموت خاتمة الحياة والأعمال، به يتحدد مصيرك، وعلى أساسه تبعث يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((يبعث العبد على ما مات عليه)) وأحدنا لا يدري متى سيأتيه الموت؟! أيأتيه على إيمان أم على كفر؟! أيأتيه على عمل صالح أم على عمل طالح؟! أيأتيه على خير وعبادة أم على شر ومعصية؟!
ألا تستلزم خطورة هذه الساعة منا أن نكون في توبة دائمة حتى إذا فاجئنا الموت كنا في أحسن أحوالنا وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن من عقوبات الذنوب والمعاصي أن قلب الإنسان ولسانه يخونانه أشد ما يخونانه عند الاحتضار، فربما تعذر على المرء النطق بالشهادة كما حدث لبعض الناس، وكان منشغلا بتجارته عن ذكر الله عز وجل وطاعته، فلما احتضر وقيل له: قل لا إله إلا الله كان يقول: هذا مشتري جيد وهذه بضاعة رخيصة. وظل هكذا حتى قبض.
يقول ابن القيم معلقا: سبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا، وكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله قلبه عن ذكره وكان أمره فرطا.
كان عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا صلى رفع يديه قائلا: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. فقال أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فقام وصلى فقبض الله تعالى روحه وهو ساجد.
و لكم أيها المسلمون أن تقارنوا بين خاتمتين، الأولى: لرجل من أهل الخليج أغدق الله عليه بالمال الوفير والنعم الكثيرة، ولكنه للأسف لم يكن يعرف حق الله تعالى فيها، فكان ينفقها في الحرام، ذهب مرة إلى إحدى بلاد الإباحية في شرق آسيا ونزل بأحد الفنادق وطلب خمرا ثم أخذ يشرب منها قارورة بعد قارورة وزجاجة بعد زجاجة حتى أحس بالألم يعتصر بطنه وشعر بالرغبة في التقيؤ فذهب إلى دورة المياه، وهناك لم يعرف أنها ستكون لحظاته الأخيرة عندما أخذ يتقيأ ما بجوفه من خمر خرجت روحه ووقع .. فتجمع الناس بالخارج وأخذوا يطرقون عليه الباب ثم كسروه فوجدوا رأسه في أخس مكان في دورة المياه.
قارنوا بين خاتمة هذا الرجل وخاتمة هذا الشاب الذي جلس في المسجد بعد صلاة الفجر ينتظر صلاة الضحى مع إخوانه فلما أخذ ركنا وجلس يقرأ القرآن وكانت هي الساعة الأخيرة من عمره، على هذه العبادة المباركة ففزع إخوانه وقاموا إليه مسرعين لينجدوه، ولكنهم وجدوه قد فارق الحياة علام سيبعث هذا الغلام، وعلام سيبعث هذا الرجل؟! سيبعث هذا الغلام وجوفه مليء بذكر الله عز وجل ويقال له إن شاء الله تعالى: أقرأ ورتل فإن منزلتك عند الله تعالى عند آخر آية كنت تقرأها، وسيبعث ذلك الرجل وفمه ملئ برائحة الخمر وجوفه ملوث بها.
تلكم أيها المسلمون أعظم دواهي الموت التي ينبغي أن نتعظ بها: قوة السكرات والنزعات وشدة الندم والحسرات ومصير خاتمة الحياة فهل يبقى بعد ذلك للمذنب أن يصر على ذنبه؟ هل يبقى بعد ذلك للفاجر أن يمضي في فجره؟ هل يحق بعد ذلك لعاقل أن يبتعد عن ربه؟
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجـر
فكـم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا وقد نسجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبـر
وكـم من عروس زينوها لعرسـها وقد قبضت أرواحهم ليلـة القـدر
وكـم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فمــن عـاش ألفـا وألفيـن إنـه لابـد من يـوم يسـير إلى القبر
أيها المسلمون: إن خطورة الموت تكمن في أنه فاصل بين حياتين وحاجز بين دارين: دار الحياة الدنيا ودار الحياة الآخرة، دار العمل ودار الجزاء، دار الاختبار ودار الحساب، فالإنسان منا إذا مات استقبل حياة جديدة وبدأ حسابه وقامت قيامته حتى إذا أذن الله تبارك وتعالى لإسرافيل بالنفخ في الصور وبدأ النشور وحقت الحاقة ووقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً فكانت هباءً منبثاً يومئذ ينشق القبر من فوقك ويزحزح التراب عنك وتخرج عاريا تنفض عن رأسك الغبار وتقوم بين أفواج من البشر وأمواج من الخلائق من لدن آدم عليه السلام.
وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون .
يوم ندعو كل إناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً .
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً أقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً .
فماذا ستفعل أيها العبد المسكين أمام تلك الأهوال؟ وما الذي سينفعك وقتها؟ والله لن ينفعك وقتها مال ولا بنون؟ لن ينفعك إلا قلب سليم وركعة ركعتها في جوف الليل أو آية قرأتها من كتاب الله ترجو ثوابها أو صدقة وضعتها في يد يتيم أو دمعة نزلت من عينيك خوفا من الله جل وعلا. |