أما بعد:
يقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين هذه الآية من سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري عن البراء قال: آخر آية نزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وآخر سورة نزلت براءة، وكان نزول هذه السورة في أعقاب غزوة مشهورة هي غزوة تبوك.
وكان المسلمون وقتها في عسرة وجدب وضيق وكان زمان حر شديد وبلاء، والناس ينتظرون الثمار التي قد أينعت ويستطيبون البقاء في الظل، فإذا بداعي الجهاد يؤذن للخروج لملاقاة الروم في بلادهم.
وجلى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وأنهم يقصدون الروم في بلادهم على خلاف هديه صلى الله عليه وسلم في الغزوات الأخرى حيث كان يوري بالوجهة التي كان يقصدها حيث يبغت العدو، ولكنه هاهنا أعلمهم بذلك ليأخذوا أهبتهم واستعدادهم لمشاق الطريق.
وتسابق المسلمون في التجهز للغزو والتصدق حتى خرج الجيش ولم يتخلف إلا رجل مغموس في النفاق أو رجل أعذره الله وثلاثة نفر جعلوا يتأخرون ويسوفون الخروج حتى فاتهم الجيش ولم يستطيعوا إدراكه ثم كان من أمرهم عند عودته صلى الله عليه وسلم أن صدقوه الحديث ولم يكذبوا كما فعل المنافقون الذين جاءوا يعتذرون عن تخلفهم بالأعذار الكاذبة وكان من أمرهم ما قصه الله عز وجل علينا في هذه السورة: وعلى الثلاثة الذين خلفوا إلى قوله: ما كانوا يعملون .
والمتأمل في هذه الآية والمناسبة التي جاءت فيها يلفت انتباهه أمر جدير بأن يقف المرء أمامه ويتفكر فيه جيدا، فهذه الآية خطاب للمؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، فخرج من ذلك الخطاب: المنافقون.
ثم هؤلاء المؤمنون منهم المهاجرون والأنصار ممن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم من هم في الصدق، ومنهم أيضا الثلاثة الذين تخلفوا وهم أيضا صدقوا ولم يسلكوا مسلك المنافقين في الاعتذار الكاذب، فما الأمر إذن؟! ليست المسألة هي مسألة قول فقط ليكون الإنسان مع الصادقين، بل هناك حقيقة أخرى للصدق هي أعم من كونه مجرد صدق في القول وفقط، نلتمس جزءا من هذه الحقيقة من خلال التأمل في الآيات التي جاءت بعد هذه الآية: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه هذا بعض وصف للصادقين الذين يأمرنا الله عز وجل أن نكون معهم بأنهم هم الذين لا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتخلفون عن نصرته ولا عن دعوته ولا يرغبون بأنفسهم عن نفسه، أوجع تأنيب يمكن أن يؤنب به مؤمن صادق أن يقال له أنه يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل هذه الدعوة ويؤثرون أنفسهم عن نفسه ويشفقون على أنفسهم أن تلقى شيئا مما لاقته نفسه الحبيبة صلى الله عليه وسلم فإذا كان هذا الخطاب وما يحمله من معان قد خوطب به هؤلاء النفر الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وأمرهم الله عز وجل أن يكونوا مع الصادقين ألا يلفت ذلك انتباهنا نحن للنظر في أنفسنا وحالنا هل نحن حقا مع الصادقين؟!
سؤال جدير أن يوجهه كل واحد منا إلى نفسه، ولكن قبل أن نعجل بالإجابة لنتريث قليلا حتى ندرك أولا حقيقة ذلك الصدق وعلامات أصحابه وصفاتهم الذين أمرنا الله عز وجل أن نكون معهم، فكثر من الناس يظن أن ركن الصدق الوحيد هو صدق اللسان فقط، وهذا الصدق لاشك في أهميته ومنزلته، ولكنه يمثل جانبا فقط من جوانب الصدق، والإنسان لا يبلغ مرتبة الصديقية حتى تتحقق فيه أركانها جميعا، فحقيقة الصدق تشمل صدق النية والإرادة وصدق القول وصدق الأعمال وصدق الأحوال يقول ابن تيمية رحمه الله: ومما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأفعال.
فأما صدق النية والإرادة: فيستلزم أن تكون بواعث الأعمال والسكنات كلها لله عز وجل، وأن يكون الظاهر معبرا عن الباطن، فإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا يدل على عدم الصدق في النية كما قال الله عز وجل في وصفه المنافقين: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
ومن ذلك حديث الثلاثة أول من تسعر النار بهم يوم القيامة، فإن كل واحد منهم لما خالفت سريرته علانيته قيل له: كذبت لأنه كان كاذبا في نيته وإرادته الباعثة على العمل، فالعالم لما قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قيل له: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: قارئ وكذا الذي قاتل ليقال: شجاع، والمنفق ماله ليقال: كريم، لما كانت بواعث الأعمال في حقيقتها غير وجهه سبحانه قيل لهم: كذبت.
ومن صدق النية: الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه فمن ذلك أن يعاهد الإنسان ربه لئن آتاه مالا ليصدقن أو لئن عافاه الله من مرضه أو نحوه فإنه سيداوم على طاعته ولن يعود إلى معصيته إلى غير ذلك من الوعود والعهود التي يأخذها على نفسه، فإذا كانت هذه العزيمة ضعيفة أو مترددة كان هذا نوعا من الكذب كما وصف الله تعالى المنافقين بذلك فقال: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون فالصدق في العزم يستلزم الوفاء به عند التمكن منه ثم الاستمرار على ذلك الوفاء.
وأما الركن الثاني من أركان الصديقية فهو الصدق في الأقوال:
وهذه المرتبة من الصدق من أعظم المراتب وتكميلها من أعظم الأمور وأشقها على النفس، لكن ليس الصدق منحصرا فيها كما يظن كثير من الناس، وهذا النوع من الصدق يستلزم أمورا ثلاث:
الصدق في نقل الأخبار:
وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يسمع كما قال عليه الصلاة والسلام: ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) وكما قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) ومن ذلك لمز الدعاة والمصلحين وترديد الأباطيل والأراجيف الكاذبة التي يروجها المغرضون والمفسدون بهدف تشويه دعاة الحق الذين يصدعون به ولا يخافون لومة لائم ولا يتزلفون طاغوتا أو ظالما فيرمونهم تارة بالبدعة وأخرى بالضلال وثالثة ورابعة، ويتلقف هذه التهم أناس لا علم لهم ولا تثبت فتلوكها ألسنتهم، وكأنها قضية مسلمة لا مرية فيها، وقد حذر سبحانه من هذا المسلك المنحرف فقال: إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقال الله عز وجل: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً قال ابن عباس: أي لا تقل، وقال: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم، وهذا النوع من الصدق في القول يحتم على الصادق أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه جل وعلا كقوله مثلا: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن قلبه إذا كان منصرفا عن الله تعالى مشغولا بأماني الدنيا وشهواته فهو كذب.
الصدق في الوعد والوفاء به:
سواء كان هذا الوعد على مكان معين أو في زمان معين أو على أعطية أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه، فالصدق في القول يستلزم الوفاء بها وعدم إخلافها مهما كانت الظروف، وللأسف الشديد فإن هذا النوع من الصدق في القول لازلنا نفتقده كثيرا في واقعنا وقل من يحرص عليه.
الصدق في الوفاء بالعقود والعهود :
سواء كان عهدا مع الله عز وجل أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع أي أحد فالوفاء بكل ذلك من لوازم الصدق كما أن إخلاف أي منها من لوازم الكذب والنفاق وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون .
فالوفاء بعهد الله عز وجل يقتضي توحيده وإفراده بالعبادة، كما يقتضي التحاكم إلى شرعه وحده والكفر بالطاغوت، وهذا هو مقتضى الصدق في شهادة أن لا إله إلا الله التي يرددها الإنسان بلسانه.
كما أن الوفاء بعهده صلى الله عليه وسلم يقتضي إحياء سنته والذب عنها وتقديم قوله على قول كل أحد، وهذا مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، فمن أخل بشيء من ذلك المقتضى فهو كاذب في هذه الشهادة كما قال الله عز وجل مكذبا المنافقين عندما قالوا: نشهد إنك لرسول الله فقال: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون .
فلما كان واقعهم يخالف مقتضى هذه الشهادة باطنا وظاهرا، ومن ذلك رفضهم التحاكم إلى شرع الله عز وجل كما قال سبحانه عنهم: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا وقال سبحانه: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون .
وأما الوفاء بعهد الناس فقد جعل الشرع إخلافه والغدر فيه من أشد أنواع الكذب بل جعله من أركان النفاق وآيات المنافقين كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهم كانت فيه خصلة من النفاق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أحمد من حديث أبي هريرة: ((لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعا، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعا)).
ولذا كان حرص السلف على الوفاء بالعهد بل بما هو دونه فأخرج الفريابي عن عبد اله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال: انظروا فلانا لرجل من قريش. فإني كنت قلت له في ابنتي قولا يشبه العدة وما أحب أن ألقى الله تعالى بثلث النفاق، وأشهدكم أني قد زوجته.
وأما الركن الثالث فهو الصدق في الأعمال:
وهذا يستلزم أن يجاهد الإنسان نفسه لتكون سريرته وعلانيته واحدة، وألا تدل أعماله الظاهرة على أمر باطن لا يتصف به حقيقة كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر، والقلب ليس كذلك، ولذا كان بعض السلف يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع. وقال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور. وقال معاوية بن قرة: من يدلني على بَكاء في الليل بسّام في النهار؟!
وأما الركن الرابع فهو الصدق في مقامات الدين:
وهو كما يقول صاحب الإحياء: أعلى الدرجات وأعزها، وهو صدق أحوال القلب من الصدق والرجاء والحب والتوكل والرضا واليقين وسائر هذه الأمور التي لها مبادئ ينطلق الإسم بظهورها وغايات لمن نال حقيقتها، والناس يتفاوتون فيها تفاوتا عظيما ولنضرب مثلا لأحدها الخوف مثلا: ما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفا ينطلق عليه الاسم، ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة، ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه!! في حين أنه إذا خاف حاكما ظالما أو قاطع طريق فإنه يصفر لونه وترتعد فرائصه ويتنغص عليه عيشه.
انظر إلى أولئك الذين يتخلفون عن الجمعة وعن الصلاة أو ربما لا يصلون بالمرة ألا يزعم كل واحد منهم انه يخاف الله رب العالمين؟! وهذا الذي يفطر في نهار رمضان من غير عذر ألا يزعم أنه يخاف الله رب العالمين؟! وذلك الذي يسرق ويغش ويزني ويرابي ألا يزعم كل واحد منهم أنه يخاف الله رب العالمين؟! وهؤلاء النسوة المتبرجات السافرات الكاسيات العاريات ألا يزعمن أنهن يخفن الله رب العالمين؟! مثال آخر محبة الله عز وجل … كم من مدع لها وهو كاذب في دعواه وواقعه يناقض هذه الدعوة ويكذبها، وقد فضح الله هؤلاء بآية واحدة فقال لهم: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيـع
فهذه أخوة الإسلام هي حقيقة الصدق وأركانه، وهي كما رأينا لا تقتصر على مجرد صدق الحديث فحسب وإن كان هذا أحد أركانها، وقد جاء القرآن بما يدل على هذا المعنى في غير آية في وصف الصدق والصادقين، ومن ذلك قوله عز وجل: ليس البر أن تولوا وجهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر وهذا صريح في أن الصدق يكون بالأعمال الظاهرة والباطنة، ومنه قول عز وجل: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ومنه قوله جل وعلا: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .
ومن علامات الصدق ومظاهره التي يدل تخلفها على ضعف الصدق:
طمأنينة القلب وسكينته:
يقول عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)) ومن مظاهر هذه الطمأنينة الثبات في الشدة والفتنة كما قال الله جل وعلا: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين فالذي يثبت في مواطن الشدة والبأس هم الصادقون وحدهم، أما أهل الكذب والريبة والنفاق فسرعان ما يولون الأدبار وتتناوشهم الظنون والأوهام ويظنون بالله غير الحق كما قال المنافقون لما رأوا الأحزاب قد تكالبوا على المسلمين ليستأصلوهم فقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وكما صور الله حالهم عند المخاوف والشدة: فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت أما أصحاب الصدق ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً .
ومن علاماته أيضا الزهد في الدنيا والاشتغال بالأعمال الصالحة.
وهذا من لوازم صدق التأهب للقاء الله عز وجل، إذ هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية من اليقظة والتوبة والإنابة والزهد والمحبة والرجاء والخشية وسائر أعمال القلوب، فالصادق جعل طاعة ربه قبلة قلبه، ونصب قلبه أين كانت يتوجه إليها إن كان علم وجدته مع أهله أو جهاد وجدته في صف المجاهدين أو صلاة وجدته في القانتين أو ذكر وجدته في الذاكرين أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين يدين بدين العبودية أنى استقلت ركابها، فإن قيل له: ما تريد من الأعمال؟ قال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعتني أو فرقتني، ثم هو مع ذلك حريص أشد الحرص على إخفاء عمله من الخلق كراهة إطلاعهم عليه، وهذا أيضا من علامات الصدق ولذا فقد كان سلفنا أحرص الناس على إخفاء أعمالهم كراهة الشهرة والظهور، فعن بكر بن ماعز قال: ما رؤي الربيع متطوعا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة، وكان عمله كله سرا إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه. وقال الحسن: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا.
ثم تجد الصادق على اجتهاده هذا يشعر بالتقصير فيرجع باللوم والإصلاح والمراجعة على نفسه فأخرج أحمد عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: ((لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل))، وفي رواية للترمذي: ((وهم يخافون ألا يتقبل منهم))، أولئك يسارعون في الخيرات .
ثم لا تجد الصادق غافلا عن أمر دينه وقضايا أمته بل إن من علامات صدقه أن تجده مهتما بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا من لوازم الانتماء لهذا الدين ومحبة الله عز وجل التي تقتضي من صاحبها ألا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة، وهو يرى الفساد وقد دب في أديان الناس ودماءهم وأعراضهم يقول ابن القيم رحمه الله: أي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضيع ودينه يترك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبلاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في ماله أو جاهه بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمال مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.
ثم من أبرز علامات الصدق:-
الصدق في الحديث سواء كان إخبارا عن أمر ماجن أو وعدا بشيء مستقبل.
ومن علامات الصادق كذلك:
قبول الحق والتسليم له:
مهما كان قائله صغيرا أو كبيرا … عدوا أو صديقا.
فهذه حقيقة الصدق وبعض علاماته وصفات أهله، ويمكن الآن لكل منا أن يجيب نفسه عن السؤال الذي وجهناه في أول الكلام هل نحن حقا مع الصادقين؟
فإن كانت الإجابة بنعم فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأله سبحانه الثبات على ذلك، وإن اختلت هذه الحقيقة في نفوسنا فهذه بعض الأسباب الجالبة للصدق، وإذا صدق الإنسان مع نفسه في الأخذ بها وتدبرها فالله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملا والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين .
الأسباب الجالبة للصدق:
معرفة الصدق وثمرته ومكانة أهلة:
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: وهو منزل القوم الأعظم والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين قال تعالى: ومن يطع الله والرسول .
كما أن الصدق أساس الإيمان وركنه الركين وأساس قبول الطاعات والقربات، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة كما قال سبحانه: ليجزي الله الصادقين بصدقهم وكما قال: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ويقول ابن تيمية رحمه الله: والصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها. ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق)) كما أن الصدق أساس الخير والبركة والنماء في الأموال والأولاد وكل المعاملات كما قال عليه الصلاة والسلام: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) وكان جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إذا بايع أحدا قال: أعلم يا أخي أن ما أخذنا منك خير مما أعطيناك فاختر.
فقد يتوهم بعض الناس أن ستر الحقائق ودفن الأخطاء والعيوب في التعاملات يدر لهم ربحا ويدفع عنهم شرا، وهذا وهم وسراب، فمثل هذا التاجر كسبه ممحوق بركته حتى تجد كثيرا منهم يتساءل ويعجب أين تذهب أموالنا في حين أن غيرهم ممن يصدق في بيعه يبارك الله له في هذا القليل.
كما أن من ثمرات الصدق:-
تفريج الشدائد وكشف الكربات والنصر على الأعداء:
ومن ذلك الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه … ففرج الله عنهم بصدقهم فخرجوا.
ومن ذلك قصة الذين خلفوا إنما نجوا بالصدق، ولو كذبوا لهلكوا في الدنيا والآخرة كما أخبر سبحانه عن المنافقين.
ثم من أعظم ثمرات الصدق في الدنيا:
حسن الخاتمة:
وما أعظمها من ثمرة لو لم يكن للصدق ثمرة لكفى، فحسن الخاتمة هي التي من أجلها شمر المشمرون، وهي التي أقضت مضاجع الصالحين وأوجلت قلوب العارفين، وهذا حق لا ريب فيه فإن العبد عندما يصدق ويتحرى الصدق فإنه يكتب عند الله صديقا ويوفق إلى قول كلمة الصدق عند موته التي هي شهادة ألا إله إلا الله، التي من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة، وهذه الكلمة إنما يكون للنطق بها في هذا الموقف هذا الفضل لأنها صدق في ذاتها ولا يوفق إليها إلا صادق، وهو عندما يقولها في هذا الوقت تكون شهادة صدق لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة وانقادت بعد إبائها واستعصائها وأقبلت بعد إعراضها وذلت بعد عزها وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها واستسلمت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته وتجرد فيها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا واستوى سره وعلانيته فقال: لا إله إلا الله مخلصا من قلبه وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره وشارف القدوم على ربه وخمدت نيران شهوته وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه، وصارت الدنيا وراء ظهره فكانت تلك الشهادة الصادقة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها.
هذه بعض ثمرات الصدق وأهميته ومعرفة ذلك لا شك من الأسباب المهمة الجالبة للصدق
ومن الوسائل الأخرى:
توحيد الله عز وجل ومعرفته سبحانه حق المعرفة:
إذ إن أكثر ما يوقع المرء في الكذب والنفاق هو الخوف من المخلوق أو الطمع فيما عنده أو هو التعلق بغير الله رغبة أو رهبة، فإذا تحقق في القلب التوحيد الحق ومعرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأن الأمر كله بيده لا يملك جلب النفع ودفع الضر إلا هو فإنه عندئذ لا يقع في الكذب أيا كانت بواعثه.
ومن الوسائل الجالبة للصدق:
التخفف من الدنيا وعدم الركون إليها:
فالانغماس في ملذات الدنيا وترفها والركون إليها ينشأ من الغفلة عن الآخرة وتشتت القلب ولذا تجد الكذب وصوره يكثر في مواقع التجار وتعاملاتهم أكثر من غيرهم.
ومن الوسائل الجالبة للصدق أيضا:
تحري الصدق في الحديث:
وتجنب الكذب مهما كانت العواقب، وهذا من أعظم الوسائل كما قال عليه الصلاة والسلام: ((وإن العبد ليصدق ويتحرى الصدق)) ومما يساعد على ذلك أن يحرص الإنسان على عدم الوقوع فيما يعتذر منه إذ أن هذا من الأسباب التي تلجئ إلى الكذب.
ومن الوسائل كذلك:
الإكثار من الدعاء والاستغفار واللجوء إلى الله عز وجل في ذلك:
وهذا من أعظم الأسباب وأنجحها ومن دونه لا يجدي غيرها، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم الذي علمه إياه ربه: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة))
ومنها:
الإجهاد في الطاعات والأعمال الصالحة.
مصاحبة الصالحين والتأسي بهم وقراءة سيرهم:
و إذا ذكر الصدق والصادقين فلابد أن يذكر صديق هذه الأمة الذي جاء بالصدق وصدق به فقد كانت حياته كلها صدقا في إيمانه وإخلاصه وتضحيته ومحبته لله ولرسوله، وبهذا الصدق فاق إيمانه إيمان الأمة كلها.
وإذا ذكر الوفاء بالعهد مع الله فلابد أن يذكر أنس بن النضر لما غاب عن غزوة بدر كبر عليه ذلك وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد كان ذلك يوم الوفاء له، انطلق وهو يقول: واها لريح الجنة إني لأجدها دون أحد. وقاتل حتى قتل، فوجد رضي الله عنه وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، فما عرفته أخته إلا ببنانه، ونزل قوله جل وعلا: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله .
وإذا ذكر صدق النية والعزيمة فلابد أن يذكر البكاءون، وهم الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم معه للغزو فلم يجد ما يحملهم عليه انصرفوا وأعينهم تفيض من الدمع لا لفوات دنيا ولكن لتخلفهم عن الجهاد ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون . |