أما بعد:
فقد بلغت محبته ومكانته عليه الصلاة والسلام في قلوب أصحابه الغاية القصوى من المحبة والمنزلة التي تجوز لبشر، وقد شهد بهذه الحقيقة المشركون أنفسهم.
فهذا أبو سفيان، وقد كان مشركا يسأل زيد بن الدثنة وقد أتوا به ليقتلوه: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن مكانك نضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي!! فقال أبو سفيان للملأ من حوله: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا!!
وفي غزوة أحد حين انكشف المسلمون وتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لخطر شديد وقد أحاط به المشركون يريدون قتله عليه الصلاة والسلام حتى شجت جبهته الشريفة وأصيبت رباعيته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته في هذه اللحظات العصيبة لم يكن أحد من أصحابه الكرام يفكر إلا في شيء واحد ألا يصل إليه عليه الصلاة والسلام أذى، فأحاطوا به بأجسادهم يصدون بها عنه الرماح وضربات السيوف.
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد: انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه فقلت: كن طلحة فداك أبي وأمي. كن طلحة فداك أبي وأمي. فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بن يديه صريعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دونكم أخاكم فقد أوجب)).
وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: ناشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال: فأخذ بفيه فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال: فأخذه فجعل ينضضه حتى استله ندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دونكم أخاكم فقد أوجب)) قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضع عشر ضربة.
فلما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء أم في الأموات)) فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق فقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأموات أنت أم في الأحياء؟ قال: أنا في الأموات فأبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبينا عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله إن خلص لنبيكم وفيكم عين تطرف .. والأمثلة غير ذلك كثير.
ولكن بالرغم من كل هذه المحبة والإجلال والمكانة العظيمة له عليه الصلاة والسلام في قلوب صحابته الكرام فإنهم لم ينزلوه فوق منزلته صلى الله عليه وسلم ولم ينسبوا إليه شيئا من خصائص الألوهية .. كما يفعل كثير من الناس اليوم، قادهم إلى ذلك الغلو الذي حذرهم منه عليه الصلاة والسلام فقال: ((إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه]. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله)).
وهذه مسألة من المسائل العظيمة زلت فيها أقدام كثير من الناس فينبغي على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه وعبده لا يجوز هذه المنزلة وهو سيد ولد آدم والشافع لهم يوم الحشر بإذن الله كما قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)) فكون الرسول بشرا لا ينقص من قدره ولا يجعلنا نرفض الاقتداء به كما قال المشركون: أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر بل إن بشريته هي التي تجعل منه القدوة التي نقتدي بها والأسوة التي نتأساها لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كما أمر وتحمل في سبيل ذلك صنوف الأذى والإضطهاد وكابد المشقات حتى نصره الله وبلغ دينه، وله في ذلك بكل مسلم أجر، وله على كل مسلم حق.
فما هو حق الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته؟ أهو إطراؤه وقد نهى عنه؟ أم هو المدائح وفيها من الغلو الشيء الكثير؟ أم هو صرف شيء من العبادة إليه كالاستشفاع والإغاثة ودعائه من دون الله؟
والجواب أنها ليست شيئا من ذلك بل هذا يناقض أمره صلى الله عليه وسلم وقد نهى عنه أشد النهي إذن، ما هي حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته؟ يمكن أن نجمل هذه الحقوق في أربعة أمور:
الأول: تصديقه والإيمان به واتباع سنته وطاعته.
الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم ومحبة سنته ومحبة ما يحبه.
الثالث: توقيره وتعزيره.
الرابع: الصلاة والسلام عليه.
ونعرض لهذه الأمور بشيء من التفصيل:
الأمر الأول: وهو تصديقه عليه الصلاة والسلام والإيمان به واتباع سنته وطاعته :
وهذا هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله قال تعالى: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا ً وقد أمر الله عباده بطاعة نبيه فقال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)).
وقد أمر الله عباده المؤمنين باتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، وجعل ذلك شرط محبته عز وجل ودليلها فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وقال: فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ، ولا يتحقق إيمان أحد حتى يقبل حكمه ويسلم لقضائه ويرضى بأمره فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً .
وحذر من مخالفته والخروج عن أمره فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أو تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وقال: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً .
الأمر الثاني وهو محبته صلى الله عليه وسلم:
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الشيخان: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) وأخرجا عن أنس أيضا: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)) فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر)).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ((ما أعددت لها؟)) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله قال: ((أنت مع من أحببت)).
ولمحبته صلى الله عليه وسلم علامات منها الاقتداء به وإيثار شرعه وتقديمه على أهواء النفس وذكره بالصلاة عليه كما شرع ومحبة أصحابه وما يحبه صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: وهو تعزيره وتوقيره وتعظيم أمره صلى الله عليه وسلم:
فقد قال تعالى: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعذروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً وروى الإمام مسلم عن عمرو بن العاص قال: (وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه).
وخير تعظيم لرسول الله تعظيم سنته وهديه عليه الصلاة والسلام وتعظيم أمره ونهيه وعدم تقديم رأي أحد مهما كان على رأيه، لا كما يفعل كثير من الناس اليوم فتقول لهم: قال الرسول .. فيقولون لك: إن الشيخ الفلاني يقول كذا أو الأستاذ فلان يقول كذا أو أخبار اليوم تقول كذا.
وقد أنكر ابن عباس على قوم يقول لهم: قال الله، وقال الرسول، فيقولون: قال أبو بكر وعمر، وحذرهم من أن يحل عليهم عذاب من الله.
وكذلك ما يفعله كثير من العوام وغيرهم ممن ينتسبون إلى الدعوة من السخرية بسنته عليه الصلاة والسلام وممن يحرص عليها في ملبسه وهيئته ومختلف أموره فيسخرون منهم، بل ذلك من أمور الكفر التي اتصف بها المنافقون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. . .
|