.

اليوم م الموافق ‏10/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

المسلمون في استراليا

727

العلم والدعوة والجهاد

المسلمون في العالم

عبد السلام بن محمد زود

سدني

مسجد السنة

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- من المسئول عن ضياع أبنائنا في استراليا والغرب 2– واقع أبنائنا مُر وسببه ذنوبنا ومعاصينا 3- نعمة الله لا تدوم إلا بشكرها أي بطاعة الله 4- صور مما صنعه الآباء من معاصي وكبائر 5- انغماس بعض المسلمين بالربا 6- قصة مُرابي 7- وقوع الناس في الكسب الحرام

الخطبة الأولى

 

من المسؤول عن فساد وضياع أبناء المسلمين في الغرب؟ من المسؤول عن فساد وضياع أبناء المسلمين في الغرب عامة وهنا في استراليا خاصة؟

سؤال هائل وخطير يطرح نفسه اليوم وبقوة على الساحة المحلية، والجميع يريد جوابا؟ من المسؤول إخواني في الله: أهي الدولة؟ أم إعلامها؟ أم مدارسها؟ أم المشايخ والمربين؟ أم الأهل؟

والجواب باختصار: إن الجميع مسؤول، ولنا مع كل طرف من هذه الأطراف وقفة بمشيئة الله تبارك وتعالى، ووقفة اليوم مع الأهـل، فأصغوا إليها لعلنا نستفيد منها.

 إخواني في الله: إن أبناءنا أغلى ما نملك في حياتنا بعد ديننا، والحرص على صلاحهم وإصلاحهم مطلب شرعي، لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً [التحريم:6]. وتضييع هذا المطلب يؤدي إلى حسارتهم في الدنيا والسؤال عنهم يوم القيامة لقوله : ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...)) متفق عليه من حديث ابن عمر [1].

إن واقع أبناء المسلمين في هذه الديار وغيرها من ديار الكفر، لا شك أنه واقع مرير، بل ومصيبة أصابتنا والله بسب ما كسبت أيدينا، قال الله تعالى يخاطب الناس جميعا مسلمهم وكافرهم: وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ [الشورى:30]. قال ابن كثير رحمه الله: أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب، فإنما هي بسبب سيئات تقدمت لكم وَيَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، كما قال في آية أخرى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهَ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]. أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق وَلَكِنْ يُؤَخِرُهُمْ إِلى أجَلٍ مُسَمَّى [فاطر:45]. أي إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية.

وبين سبحانه وتعالى في سورة الروم أن ما يصيب العباد من من مصائب إنما هي عقاب منه لهم على بعض ما عملوه من الذنوب والمعاصي، فقال تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِيْ البَرِ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيَدِي النَّاسَ ليُذِيْقَهُم بَعْضَ الذِِي عَمِلُوا [الروم:41]. وبين الحكمة من ذلك فقال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. أي عن المعاصي، إن كانوا أصحاب معاصي، وعن الكفر إن كانوا أهل كفر إن كانوا أهل كفر، كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].

الأسباب التي أدت إلى فساد الأبناء وضياعهم:

ولمعرفة الأسباب التي أدت إلى فساد أبناء المسلمين وضياعهم، لا بد من مراجعة ماضيهم، بدءا من أهلهم، وبيتهم، ومدرستهم، ورفاقهم، بالإضافة إلى مأكلهم ومشربهم وملبسهم، ومن خلال ذلك يمكن أن نقف على الأسباب التي أدت إلى ذلك.

إن الناس إخواني في الله: يوم قدموا إلى هذه البلاد، كان منهم الفقير فأغناه الله، والجائع فأطعمه الله، والعُريان فكساه الله، والخائف فأمنه الله، والمطرود المشرد فآواه الله، أعطاهم الله تعالى ما يريدون، وأمنهم مما يخافون، فالمفروض بهم أن يذكروه، وعلى نعمه يشكروه، وبالعبادة يفردوه، امتثالا لأمره تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].

ولكنهم لم يفعلوا ما أُمروا به، وانكبوا على الدنيا يجمعونها من حلها وحرامها، حتى جاء اليوم الذي ألقت فيه بأبنائهم وفلذات أكبادهم إلى الشوارع، ومن ثم إلى السجون، والله أعلم بالمستقبل ربما إلى التصفيات الجسدية كما حصل لبعضهم.

 ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه امتن على قريش أيما امتنان، فأطعمهم بعد أن كانوا جائعين، وأمنهم بعد أن كانوا خائفين، ثم أمرهم بعبادته ليشكروه على نعمه، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]. فمن استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا والآخرة، ومن عصاه سلبهما منه، كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

 أجل سلبهم الأمن والأمان، والأكل والطعام، لأنهم لم يعبدوه ولم يشكروه، بل عصوه وكفروا به. وما حلت الهزيمة بالصحابة رضوان الله عليهم في غزوة أحد، واستشهد منهم سبعين رجلا يومها، إلا بسبب معصية بعض الرماة لأمر من أوامر رسول الله حين أمرهم أن لا ينزلوا عن الجبل فعصوا الأمر ونزلوا باجتهاد منهم، وبعد أن حلت بهم الهزيمة تساءلوا فيما بينهم: كيف أُصبنا بهذا؟ كما قال تعالى عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]. أي بسبب عصيانكم لرسول الله .

 إذاً فالمعاصي يا عباد الله، هي سبب المصائب والخوف والجوع، بل وسبب زوال النعم وحلول النقم، والعياذ بالله تعالى. لذلك: يجب أن نعتبر بهذه الأمثال وهذه الآيات، وأن لا نقابل نعم الله علينا بمعصيته، والوقوع فيما حرم علينا، لئلا يحل بنا ما حل بمن قبلنا، قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].

 والآن إخواني: ما الذي كسبته أيدينا حتى حلَّ بنا وبابنائنا ما حلَّ؟.

والجواب: أن الواقع الذي عاشه أهلنا منذ قدومهم إلى هذه البلاد، والذي لا زلنا نعيشه نحن اليوم هو الذي يكشف لنا عما كسبته أيدينا. ولنبدأ بتحليل المشكلة من البداية:منذ أن قدم الأوائل إلى هذه البلاد ما الذي فعلوه؟

 الجواب: باشروا العمل من صبيحة اليوم الثاني بعد وصولهم، بماذا عملوا؟ بما تهيأ لهم من حلال أو حرام. ماذا كانوا يأكلون ويشربون؟ ما يجدونه في المحلات من حلال أو حرام عالمين أو جاهلين، حتى حدثنا بعضهم: أنهم كانوا يشربون البيرة بدل العصير والعياذ بالله.

 بعضهم كان يصلي فلما وصل إلى هنا ترك الصلاة. وبعضهم كان يواظب على صلاة الجمعة في المسجد، فلما وصل إلى هذه البلاد وفتح الله عليه الدنيا، أصبح يصليها ظهرا في العمل.

وبعضهم كان يصلي الصلاة على وقتها يوم أن كان عاطلا عن العمل، فلما أقبلت عليه الدنيا ووفقه الله للعمل، انشغل عنها فأصبح يجمعها ويصليها في نهاية النهار عندما يعود إلى بيته، وطبعا بعد خروج وقتها، وقد جاء في الأثر الضعيف: ( أنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني) رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بسند ضعيف[2].

وبعضهم كان يزكي يوم أن كان فقيرا، فلما أقبلت عليه الدنيا ترك الزكاة وقال متفلسفا: إن ما تأخذه الدولة من ضريبة (TAX) (التكس) هي الزكاة بعينها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أما صيامهم: فقد كان القليل منهم يصومون، وبعضهم كان يقرأ في القرآن بل ويحفظ سورا منه، وبعد مرور وقت على بدئه بالعمل انشغل عن القراءة لعدم وجود الوقت الكافي، وربما نسي ما كان يحفظه من كتاب الله لقلة المراجعة.

 وبعضهم كان إذا رأى منكرا نهى عنه، فلما وصل إلى هذه الديار، ورأى حياة ومجتمعا غير التي نشأ فيه، ترك ذلك وقال: عجبا للناس في هذه البلاد، كلما أردنا أن ننهى عن منكر قالوا: لا تتعب نفسك، البلد بلد حرية (free country) نفعل فيها ما نشاء.

أما الحج فالحمد لله حافظوا عليه، بل وأكثروا منه، حيث إن غالبهم قد حج، وبعضهم يحج كل عام، والقليل منهم لم يحج بعد، نسأل الله أن ييسره لهم. وأما لباس النساء فكان في بداية أمره محتشما، ثم مع مرور الوقت انحسر شيئا فشيئا عن رأسهن وأيديهن وأرجلهن حتى أصبحن كاسيات عاريات كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة [3] أن رسول الله قال: ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)).

 وأما البيوت: فلم يكن أحد منهم يفكر في شراء بيت، لأنهم جاءوا لفترة محددة يعملون خلالها ثم يرجعون، بدليل أنهم تركوا نساءهم وأولادهم في بلادهم، لكن لما استمرت أوضاع بلادنا في التدهور، فكروا في الإقامة رسميا في هذه البلاد، فاستدعوا نساءهم وأولادهم فأحضروهم إلى هذه البلاد.

وكان أحدهم يستحيل أن يأكل الربا أو يتعامل به ولو تعرض للموت، وربما كان متزوجا وله أولاد ومع ذلك يسكن مع أهله في بيت واحد، فلما وصل نساؤهم وأولادهم إلى هذه البلاد وجدوا أنهم بحاجة إلى بيت يملكونه، فطرقوا أبواب البنوك فوجدوا الربا أمامهم، فاستعاذوا بالله منها وابتعدوا، بل وأنكروا أشد الإنكار على من تعامل بها، لكن بعد مرور سنوات تأثروا بمن قبلهم، وأقنعوهم بأن الربا حلال في هذه الديار، خاصة لشراء البيت الأول، كما أفتانا الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، أعني مشايخ الضلال في هذه البلاد وخارجها. أخيرا غيَّر المساكين رأيهم في الربا، فوقعوا فيه واشتروا البيت الأول، ثم المطعم الأول، ثم المحل الأول، وهكذا لم يقفوا عند حد، بل تحولوا والعياذ بالله إلى مستهزئين بمن لا زال يقول بحرمة الربا، غافلين أو متغافلين عن الآيات والأحاديث المحرمة للربا، كقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]. وقول جابر بن عبد الله : ((لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ)) رواه مسلم[4] . بل ومقدمين عليها قول من أفتاهم من مشايخ الضلال في الداخل والخارج.

ولا أقول لإخواني: لا تشتروا بيوتا وسيارات ومطاعم ومحلات وابقوا فقراء هكذا، لا بل اشتروا ولو مدينة سدني كلها لكن بالحلال. وقد قال وسيقول أهل الدنيا: إذاً انتظر حتى تجمع المال الحلال وتشتري به بيتا، وقد وُجد أناس قبلك قالوا مثل قولك، ولا زالوا حتى الآن يعيشون بالأجرة لم يحققوا أي مستقبل لهم ولا لأبنائهم، وأنت منهم، نعم أنا منهم، وسأبقى هكذا فقيرا إلى رحمة الله، غنيا عما في أيدي الخلق من حرام، فاللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، ولا تخزنا يوم العرض عليك.

 ثم جرَّ الحرام إلى الحرام، كما هي سنة الله القائل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]. قالوا هذا البيت الذي تعبنا فيه ووضعنا فيه أموالنا، لا بد أن نؤمنه في شركات التأمين حتى لا نخسره، فأمنوا عليه بالحرام أيضا.

 وأقول للذين يؤمنون مستقبلهم ومستقبل أولادهم: لقد أمنتم مستقبلكم فماذا كانت النتيجة؟ هموم وغموم، ومصائب ومشاكل ومتاعب داخل الأسرة، وداخل البيت لا يعلم بها إلا الله، مشاكل بين الزوج وزوجته، ومشاكل بين الأخ وأخيه، ومشاكل بين الأهل وأبنائهم، ومشاكل بين الأولاد ورفاقهم، ومشاكل بين الأولاد ومجتمعهم، كم من زوج طلق زوجته بسبب الذنوب والمعاصي؟ وكم من زوجة طردت زوجها من البيت بعد أن استدعت الشرطة عليه بسبب بعده أو بعدها عن الدين؟ وكم من ولد عق أباه وأمه، بل وضربهما، بل ربما أرسلهما إلى بيت الرعاية عند الدولة؟ وكم من أب يتمنى أنه لم يرزق بأولاد، وكم من أب يعيش عيشة السجين في قصره، والهم والغم والنكد يحيط به من كل جانب، علما بأنه لا ينقص عليه من أمور الدنيا شيئ، كم وكم لا ينتهي. . .

أخي في الله: إن الدنيا الدنيئة ليست مستقبل المسلم، إن مستقبل المسلم الحقيقي جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، الجنة هي مستقبل المسلم، والجنة هي دار إقامة المسلم، وفي الجنة منزل المسلم، ونعيم المسلم، وراحة بال المسلم إن شاء الله تعالى، أما الدنيا فوالله ما رضيها الله جزاءً وثوابا لعبده المؤمن، ولم يرضها دار إقامة وقرار لعبده المؤمن، إنما هي دار عبور ومرور، فأمِّن مستقبلك الأخروي عبد الله، واهتم به خيرٌ لك في الدنيا والآخرة. والله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، لأن تسكن العمر كله بالأجرة خير لك من شراء بيت واحد بالحرام، خير من أن تحل عليك لعنة الله، خير من أن تعرِّض نفسك لعذاب الله في القبر، ويوم القيامة حين يقوم أكلة الربا من قبورهم كالسكارى، يقومون ويقعدون وهم في طريقهم إلى جهنم والعياذ بالله، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].

 والذي يدعو للدهشة والعجب أن حوالي 90 إلى 95 في المائة من أبناء الجالية الإسلامية التي تعيش في هذه البلاد وغيرها من بلاد الغرب، يتعاملون اليوم بالربا بيعا وشراء، بدءا من شراء البيت وانتهاء بما الله به عليم، وهذه ظاهرة خطيرة كانت من الأسباب المباشرة لما آل إليه حال أبنائنا، عرف ذلك من عرف وجهل ذلك من جهل.

أخي في الله: أيا كنت وأينما كنت لا تأمن عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة، ولا تأمن مكر الله فإنه لا يأمن مكرَ الله إلا القوم الخاسرون، ولا تفرح بالحرام فإن الله لا يحب الفرحين، لا تفرح بشراء بيت أو سيارة أو غسالة أو براد أو غير ذلك بالربا، ولا تقل أصبحت أملك بيتا آمناً فيه على نفسي وعيالي، لا والله لن ترى الأمن والأمان النفسي ولا الجسدي في البيت أنت ولا عيالك، أي أمان هذا وقد أعلن الله ورسوله الحرب عليك بعد أن أعلنتها على الله ورسوله، والله ستموت وتترك كل ما اشتريته بالحرام خلف ظهرك، وستسأل عنه وحدك بين يدي ربك، ولن تطول فرحتك به في الدنيا، فضلا عن الخوف والعذاب الذي ينتظرك هناك عند الله تعالى إن لم تتب وترجع إليه، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين: إذا خافني في الدنيا أمنتُه يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفتُه يوم القيامة))[5].

 فبالله عليك هل أنت خائف من ربك؟ لا والله لو كنت خائفا منه ما اشتريت قلما بالربا، فضلا عن شراء بيت لا بل بيوت ومحلات.

قصة رجل تعامل بالربا:

انتبهوا عباد الله، واستيقظوا من هذه الغفلة التي عمت الجميع، إن أحدهم في هذه البلاد اشترى بيتا بالربا منذ خمس وعشرين سنة وسدد ثمنه كاملا، ولم يكتف بذلك بل غره الطمع فاستأجر مطعما بالربا أيضا، وفيه ما فيه من أنواع الطعام حتى لحم الخنزير، ووالله ما هي إلا أشهر معلومات، حتى أعلن إفلاسه وعجزه عن سداد أقساط البنك، فخرج من المطعم صفر اليدين، وللبنك عليه أكثر من 100 ألف دولار، وبيته مرهون للبنك في أي لحظة يبيعه ليستوفي حقه، وها هو يدفع للبنك كل شهر ألفي دولار.

قصة شراء بيت بالربا:

وبعضهم لما وصل إلى هذه الديار أراد أن يجمع مبلغا من المال في وقت قصير ليرجع إلى بلاده ويبني مستقبله هناك، فاتفق مع صهره واشتروا بيتا بالربا، وغرهم ما تعطيه الدولة من مساعدة مجانية قدرها (6) ستة آلاف دولار لمن يشتري البيت الأول، وبعدما انتقلوا إلى البيت بشهر، وإذا بهم يستيقظون ذات صباح على رائحة دخان تخرج من البيت، وإذا بها نار تشتعل فيه، فما عرفوا كيف خرجوا منه سالمين، بعد أن فتحوا النوافذ وبدأوا برمي الأولاد منها وكادوا ينسون واحدا منهم نائما على السرير لولا أن الله قدّر لهم أن يخرجوه، وهكذا خسروا البيت وخسروا معه (38) ألف دولار في شهر واحد، بعدما ظلوا يجمعون بها وقتا طويلا. ومن الآيات العظيمة التي حصلت أن عاد الأهل بعد أيام ليقفوا على أطلال بيت كان بالأمس حلما واليوم أصبح فحما، وإذا بهم يجدون كل شيء قد احترق حتى المصحف وجدوه قد احترق إلا صفحة الربا من آخر سورة النساء، وكان لهذه الحادثة الأكبر في نفوس أصحاب البيت، وغيرهم ممن سمع بقصتهم.

إخواني: هذه بعض القصص، وما عندكم من أخبار عن هذا الموضوع أكثر مما عندنا، وصدق الله العظيم إذ يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]. أي يذهبه، إما أن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعدمه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى: قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]. وقال تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الأنفال:37]. وقال: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39]. وقال النبي : ((الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلّ)) رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود [6].

وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، فأنت تريد بالربا أن يزيد مالك، والله ينقصه لك ويذهبه عنك.

وأخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ رَافِعٍ الطَّاطَرِيُّ بَصْرِيٌّ حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى -رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ- عَنْ فَرُّوخَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنَّ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَرَأَى طَعَامًا مَنْثُورًا فَقَالَ: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: طَعَامٌ جُلِبَ إِلَيْنَا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ، قِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ، -والاحتكار: إمساك السلعة وعدم بيعها حتى يرتفع سعرها- قَالَ: وَمَنِ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فَرُّوخُ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلاَنٌ مَوْلَى عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَدَعَاهُمَا فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالاَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالإْفْلاَسِ أَوْ بِجُذَامٍ)) فَقَالَ فَرُّوخُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُعَاهِدُ اللَّهَ وَأُعَاهِدُكَ أَنْ لاَ أَعُودَ فِي طَعَامٍ أَبَدًا، وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ، قَالَ أَبُو يَحْيَى -راوي القصة- فَلَقَدْ رَأَيْتُ مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا[7]. والجذام: مرض تتساقط منه أطراف الجسم.

 فاللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة. لذلك أتوجه بهذا النداء القرآني، لكل أخ مقيم على الربا والتعامل به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278].

ومن أصرَّ على التعامل بالربا بعدما جاءته موعظة الله عز وجل في هذه الآية الكريمة، فسينتقم الله منه في الدنيا والآخرة كما قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. [البقرة:279]. وكما قال أيضا: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].

 أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



[1]  البخاري (893) ، مسلم (1829) .

[2]  عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد : كتاب الصلاة – باب في المحافظة على الصلاة لوقتها (1677) . وقال: وفيه عباد بن كثير، وقد أجمعوا على ضعفه.

[3]  صحيح مسلم (2128).

[4]  الصحيح (1598).

[5]  حلية الأولياء لأبي نعيم (6/98)، نقلا عن السلسلة الصحيحة للألباني (742)، وصحيح الجامع (4332).

[6]  المسند (1/395)، وقال احمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. رقم (3754). 

[7]  المسند (1/21)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. رقم (135).

الخطبة الثانية

 

إخواني في الله: بعد سماع ما تقدم أظن أننا أدركنا شيئا من معنى قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].

 ولعلنا عرفنا أيضا أسباب المصائب والأمراض التي تصاب بها الشعوب والأمم والأفراد.

كم من شاب طلب من زوجته خلع الحجاب ولبس القصير من الثياب!! وكم من أم أمرت ابنتها بذلك أيضا عسى أن يراها الشباب فيطلبون يدها.

وكم من إنسان دخل سلك التجارة وأصبح يبيع ويشتري الحلال والحرام في محله حتى البيرة ولحم الخنزير، بحجة أن التجارة في المحل لا تمشي إلا ببيع ذلك. وكم من مسلم يعمل في هذه المحلات بحجة أنهم لم يجدوا عملا في غيرها.

وكم من أم تذهب إلى المحل فتشتري ما هب ودبَّ من أنواع الطعام والشراب بدون أن تبحث عن الحلال من الحرام، ولو قيل لها هذا حرام يا أختنا، لرأيتها تغضب وتنظر إليك من أعلى إلى أسفل قائلة: كل شيء عندكم حرام حتى هذا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الإخوة المسلمون: أصبح مطعمنا حراما، ومشربنا حراما، وملبسنا حراما، ومسكننا حراما، وغذينا بالحرام، فبالله عليكم كيف يستجيب الله لنا؟ وقد ذكر النبي الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له [1]، أنى يستجاب لهذا وقد أغلق أبواب استجابة الدعاء كلها، أو كيف نسأل الله الجنة؟ ورسول الله يقول: ((وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به))[2].

 وأخيرا: بعضهم منذ أن وصل إلى هذه الديار وهو لا زال يعمل حتى الآن، وقد جاوز عمره الخمسين أو الستين، ولو سألت عنه: أين هو الآن الآن في هذا اليوم المبارك؟ لقيل لك بكل صراحة: هو في المصنع أو المحل أو السوق، ولو حضر المسجد تراه ينام بسرعة لكثرة الإرهاق والتعب.

 بالله عليكم مثل هذا وغيره ممن سبق ذكرهم من الآباء والأمهات، ماذا قدموا لأنفسهم في آخر حياتهم؟ هل تفرغوا لعبادة ربهم القادمين عليه، والإكثار من ذكره بالأعمال الصالحة، والتوبة إليه من جميع الذنوب والآثام التي ارتكبوها في حق أنفسهم أولا وحق أولادهم ثانيا، والله عز وجل يقول: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:14-15].

 مثل هذا يجب أن يقضي ما تبقى من عمره بين أولاده وأولاد أولاده، يعلمهم آية من كتاب الله، وحديثا من أحاديث رسول الله r، عله ينتفع بهم بعد موته، فقد قال : ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: وذكر منها: ... أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) رواه مسلم عن أبي هريرة [3].

 وإلا فبالله عليك من سيدعو لك؟ ومن سيترحم عليك بعد وفاتك يا مسكين؟ من سيحج عنك إن لم تكن قد حججت بعد؟ من سيتصدق عنك؟ محلك التجاري الذي أسسته بالحرام؟ أم بيتك الذي اشتريته بالربا؟ أم مطعمك الذي بعت فيه الحلال والحرام؟.

 مثل هذا الصنف من الرجال: ماذا قدموا للإسلام؟ كم مسجدا أو مصلى بنوه لله أو ساهموا في بنائه؟ كم يتيما أو أرملة كفلوا؟ كم داعية إلى الله فّرغوا؟ كم جزءا من كتاب الله وحديثا من أحاديث رسول الله حفظوا ولأبنائهم حفَّظوا؟

إسمع أخا الإسلام: ما قلت لك الذي سمعتَه إلا من باب النصح والتبليغ والتذكير وأداء الأمانة، وإلا فكلنا ذو خطأ، وكلنا أصحاب معاصي بحاجة إلى رحمة الله، ولا خير فينا إن لم نقل ذلك ونذكر به، ولا خير فيكم إن لم تسمعوا وتنتفعوا بما سمعتم، وإلا فليسمع الجميع قول الله تعالى في بيان من هو الخاسر حقيقة يوم القيامة: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].

عبد الله ماذا ستقول غدا لربك وقد قصَّرت في حقه وحق رسوله وحق نفسك وزوجتك. أما أولادك وما قدمته لهم طيلة عمرهم، فله لقاء خاص في الأسبوع القادم بمشيئة الله تبارك وتعالى. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.



[1]  صحيح مسلم (1015).

[2]  حلية الأولياء (1/31)  بهذا اللفظ، ورواه أحمد والحكم وغيرهما بنحوه .نقلا عن صحيح الجامع (4519).

[3]  صحيح مسلم (1631).

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً