أما بعد:
فيقول ربنا عز وجل: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [البقرة:197].
عباد الله: إن المؤمن بالله في حاجة بعد هذه الصلاة التي يصليها كل يوم، وبعد شهر رمضان الذي يصومه كل عام، وبعد أدائه الزكاة، وبعد استقامته وأدائه لحقوق الله وحقوق العباد، بحاجة إلى أن يشهد موسماً هو ملتقى المؤمنين المحبين المخلصين من الذين لبوا النداء وأتوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، وهم يلبون ويهللون ويكبرون في أرض أرادها الله تعالى أن تكون واحة للأمن والسلام يجد فيها المؤمن راحة قلبه وطمأنينة نفسه، في جو كله ذكر وتسبيح وبر وإحسان، إنه موسم عبادة، لذلك جاء المنع من أعمال وجاء الوعيد والتهديد على أعمال، وجاء الأمر بأعمال، ولا ينبغي للحاج أن يتوجه إلى تلك الأرض المباركة حتى يعلم كل ذلك. وإن أول ما ينبغي أن يعلم هو أن على الحاج أن يكون في غاية اللطف وحسن المعاملة مع كل من حوله من إنسان وحيوان ونبات، فمع أخيه الإنسان لا جدال ولا خصام ولو اضطره الأمر إلى التنازل عن حقه قال عز وجل: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج . ومع الحيوان سلم تام فلا يزعج طيراً ولا يصطاد وحشاً، قال عز وجل: وحُرّم عليكم صيد البر ما دمتم حُرماً [المائدة:96]. ومع الشجر والنبات لا إفساد ولا اعتداء. قال : ((إن هذا البلد حرام لا يُعضد شوكه - أي لا يقطع – ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها)).
وفي هذا الحديث أمر في غاية الأهمية فلا يحل للمؤمن أن يلتقط لقطة – وهي المال الذي ضاع لصاحبه والتقطه غيره – إلا بنية الإعلان عنها لمدة عام، لذلك ذهب العلماء إلى أن على الحاج أن لا يلتقط أي شيء يجده حتى يجده صاحبه، وبذلك يتحقق الأمن في بلد الإيمان والإسلام.
والحج موسم عبادة لذلك جاء النهي عن الرفث، وهو الكلام الفحش المستقبح وغيره. الفسوق وهي المعاصي خاصة التي فيها أذية للناس كالتنابز بالألقاب، قال تعالى: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان [الحجرات:11]. وكالسباب، قال : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ))، فإذا التزم الحاج بهذا السلوك، وعمر وقته بتلاوة القرآن وذكر الرحمن والبر والإحسان مع القيام بأعمال الحج اقتداء برسول الله كان حجه مبروراً، فالحاج بانقياده لربه الذي وظف عليه أعمالاً في الحج لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة، هو بذلك يظهر عبوديته لله، فيستحق بذلك الثواب العظيم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((والحج والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة )).
عباد الله: قد يعتقد البعض أن كل من حج غفر ذنبه ورجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، بينما المغفرة تحتاج إلى شروط في مقدمتها أن يكون مال الحج من حلال، وأن يكون الحج مبروراً، والحج المبرور هو الذي لم تقع فيه معصية، وأن لا يكون عليه حق من حقوق الناس، فكلنا نعلم أن منزلة الجهاد أعظم وأكرم، سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذ؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)).
ومع ذلك فإن الشهيد الذي قتل في سبيل الله يبقى مطالباً بحقوق الناس، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)).
وهناك أمر آخر قد يغفل عنه البعض، قال ربنا عز وجل: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص في الحج هو أن لا يكون الحامل عليه إلا العبادة، فمن كان قصده الأول هو التجارة بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر لأجل الحج، فلا حج له، نعم إن الكسب مباح في أيام الحج إذا لم يكن هو المقصود بالذات. قال عز وجل: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم [البقرة:198]. فالتجارة رخصة خاصة للذين يأتون بالسلع الضرورية للحجاج، فهؤلاء عملهم فيه نوع عبادة، ويبقى أن التفرغ للمناسك والتنزه عن جميع حظوظ الدنيا في تلك البقاع الطاهرة أتم وأكمل.
|