أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها الأخوة المؤمنون: أخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
العقيدة المكينة معين لا يتضب للنشاط الموصول، والحماسة المذخورة، واحتمال الصعاب، ومواجهة الأخطار، بل هي سائق حثيث يدفع إلى لقاء الصعاب والأهوال دونما تهيب، وتلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، إنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقاً من قوله، وإذا اشتغل كان راسخاً في عمله، وإذا اتجه كان واضحاً في هدفه.
وما دام مطمئنا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تعمر قلبه، فقلّما يعرف التردد سبيلاً إلى نفسه، وقلّما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، لسان حاله قوله تعالى: اعملوا على ما مكانتكم إني عامل فسوق تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه وتحل عليه عذاب مقيم .
حديثنا إخوتي عن المؤمن القوي الذي يسير في الحياة كرجل ذي مبدأ متميز، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدتهم مخطئين نأى بنفسه.
أخي المؤمن: إن صدق العقيدة وصحتها يضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلها، فإذا تكلم كان واثقا، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحا، وإذا فكّر كان مطمئناً، لا يعرف التردد ولا تميله الرياح، يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها خذوا ما آتيناكم بقوة ويقول جل وعلا: يا يحي خذ الكتاب بقوة المؤمن يأخذ أمره بعزيمة لا رخاوة معها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء.
هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جد وحق، وصراحة وصرامة.
أما الرجل الضعيف فهو الذي يستعبده العرف الغالب، وتتحكم في أعماله التقاليد السائدة، ولو كانت خطأ يجر"ّ معه متاعب الدنيا والآخرة.
إن المؤمن الحق مستنير الدرب يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، متمثلاً قوله : ((لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)) [رواه الترمذي].
المؤمن القوي يثق بما يوقن به، ويستخف بما يلقاه من سخرية واستنكار عندما يشذ عن عرف الجهّال، ويخطّ لنفسه نهجا يلتمس به مثوبة الله عز وجل، ولئن كان الإيمان بالأوهام يغري البعض بأن يسخر ويتهكم فإن الإيمان بالإسلام الحق يجب أن يجعل أصحابه أقوياء راسخين.
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاًً.
المؤمن القوي يجب أن يكون وثيق العزم، مجتمع النية، على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقرّبه منه، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مأربه.
والإسلام يكره للمسلم أن يكون متردداً في أموره يحار في اختيار أصوبها وأسلمها، ويكثر الهواجس في رأسه فتخلق أمامه جواً من الريبة والتوجّس، فلا يدري كيف يفعل أو يتصرف إن هذا الضعف والاضطراب لا يليق بالمؤمن القوي.
الإيمان القوي هو القوة في الحق، والقوة في المصارحة فيه، وذلك حين يبتعد المؤمن القوي عن المداهن والمجاملة المذمومة، فتراه يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ واضحة، لا يصانع على حساب الحق، ومن يحيا بالحق لا يتاجر بالأباطيل، المؤمن القوي غني عن التستر بستار الدخل والاستغلال، سيرته مبنية عل ركائز ثابتة من القوة والفضيلة والكمال.
ومن أجل هذا، فإن الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبثق من هذا السمو النفسي والقوة الإيمانية، وقوة الاستمساك بالحق والرضا به ولو كره الكارهون، ولا تكون قوة بصدق، خالصة بحق إلا حين تبتعد عن مشاعر الشماتة، وحب الأذى، وقصد التشهير ومن الاستعجال والانتقام.
ومن قوة الإيمان القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة التي تنشأ من كمال السجايا وحميد الخصال، كإباء الضيم، وعزة النفس والتعفف، وعلوّا الهمة، وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادة قوية، ونفس عازمة، شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيد عن الطمع والتذلل.
إن القوة في ضبط النفس آخذة بصاحبها بالسير في مسالك الطهر ودروب النزاهة، والاستقامة على الجادة، أما الرجل الخرب الذمة، ومن سقطت مروءته فلا قوة له ولو لبس جلود السباع ومشى في ركاب الأقوياء، وقد قال هود عليه السلام لقومه آمراً إياهم بالاستغفار، والبعد عن مزالق الخاطئين: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين .
عباد الله: إن قوة الإيمان هي التي تحفظ الإسلام وأهل الإسلام، فلا يُصَدون عن دين الله ولا يفتنون، قوة ترهب أعداء الله، فعلى ديار الإسلام لا يعتدون، قوة ترهب أعداء الله فلا يقفون في وجه دعوة الإسلام وأوليائها، وهي قوة كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين وللمغلوبين على أمرهم، ليظهر أمر الله ويحق الحق ويبطل الباطل: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم .
أيها الأخوة المؤمنون: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، والتوكل الذي يقوى الإنسان به ضربٌ من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عوناً ولا أملاً إلا توكله على الله الذي يأوي به إلى ركن شديد، ويستمدّ هذا التوكل ثباتاً ورباطاً على منهجه ومبدئه، وفي جميع مجالات القوة يكون الخير والمحبة الإلهية: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)).
وحين قال عليه الصلاة والسلام: ((استعن بالله ولا تعجز))، فهو يمثّل صورة أخرى من صور قوة الإيمان إنها قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، غير مستسلم للحظوظ.
إن المرء مكلّف بتعبئة قواه وطاقاته، لمغالبة مشكلاته إلى أن تنزاح عن طريقه فإذا استطاع تذليلها فذلك هو المراد، ثم بعد ذلك يكل أمره إلى ربه ومولاه، أما التردد والاستسلام للهواجس والوساوس، وتغليب جوانب الريب والتوجّس فهذا مجانب للقوة، وصدق العزيمة.
فالقوة في الجزم، والحزم والأخذ بكل العزم، ولهذا كان من أعظم المصائب الهدامة العجز والكسل، والجبن، والبخل، فهي صور من صور الضعف والخور، وقد استعاذ منها جميعها نبيّكم محمد في دعاء رفعة إلى مولاه، قائلا: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين قهر، وقهر الرجال)) [متفق عليه].
إنها كلّها أمراض تصب في مصاب الضعف، والانهزام النفس والعملي.
إن الصبر والرجاء هما عدة اليوم والغد، يتحمّل المرء في ظلهما المصائب الفادحة فلا يذل، بل يظل محصنا من نواحيه كلها، عالياً على الأحداث والفتن، لأنه مؤمن، فالمؤمن لا يضرع إلا لله.
إن استعادة الأحزان، والتحسر على فات، والتعلّق بالماضي وتكرار التمني بـ "ليت" والتحسّر في الزفرات بـ"لو" فليس من خلق المؤمن القوي، فإن لو تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس والوساوس، فهو الوسواس الخنّاس، فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل، فاتقوا الله – رحمكم الله – واستمسكوا بعرى دينكم وخذوا أمركم ودينكم بقوة حكمة، وسيروا في درب الحق بعزيمة متوكلين على ربكم، معتصمين بحبله، تكونوا من الراشدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين .
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم. |