أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصَّكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة فتوبوا إليه واستغفروه واشكروه، عباد الله، بزغ نور الهداية يشع في ذرُى مكة المكرمة لينتشر في أنحاء العالم، ناشرا معه الفضيلة، داعيا إلى الخير، مرهَّبا من الشر، أقر الفضائل، وَنقَّص الرذائل وألغى ما يخالف الإسلام من عادات جاهلية تسلب الحقوق وتهدر الكرامات.
كان من فضائل الإسلام على المرأة أن أعاد عليها كرامتها، وحفظ عليها ماء وجهها من أن تبذله، وتستذل استذلالا مقيتا، جعلها محفوظة في بيت أبيها تُحْتَرم ويعطف عليها لأنها امرأة، يراها مكرّمة معززة في بيت زوجها تبدي رأيها وتزور أهلها وتصل رحمها، نراها أمََّا تصبح كنفا للابن وينبوع سعادة، يتدفق بأغلى عاطفة إنسانية، فتعالوا إخوتي مرة أخرى لنتحدث عن المرأة بعد أن تحدثنا في خطبتنا الماضية عن كيفية الحفاظ على المرأة فهيا بنا نتناول الحديث عن المرأة التي نريد وماذا نريد من المرأة؟!
إخوة الإيمان: كوّن آدم وحواء أول أسرة في التاريخ عاشت بعد أمر الله لهم بإنجاب الأولاد ثم تربيهم على عقيدة الله عز وجل ونبذ الشرك، إذا فالمرأة تبدأ من الأسرة وتعتبر إحدى ركائزها، بل هي الركيزة الأساسية لهذه الأسرة، التي أمر الإسلام بأن يكون الزوجين فيها مترابطين بهذا الولاء: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21]. وبلغ من عظم هذا الرباط بين الزوجين أن جعله عليه الصلاة والسلام إحدى وصاياه لأمته في خطبة الوداع: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ..))، والمرأة سواء كانت أمًا أو زوجة أو بنتا أو أختا أو عمة أو خالة لها مكان محترم وتقدير من نوع خاص، فاحترام الأم ينبع من توجيه إسلافنا بطاعة الوالدين، وتقدير الزوجة لأنها النصف الآخر لدين الرجل وعتبة منزله، وبنتا لتربيتها وحسن رعايتها، أجر مرافقة النبي في الجنة، وأختا يحافظ عليها حتى تجد الزوج الصالح، وعمة وخالة أمر الدين بصلة الرحم من خلالهن وتوعد قاطع الرحم بأشد العقوبات.
أيها الإخوة المؤمنون: لا يمكن لنا أن نتحدث عن دور المرأة ورسالتها المطلوبة منها بمعزل عن الحالة العامة التي تعيشها الأمة، فالمرأة لا تقيم في جزيرة نائية بل تعيش وسط العمعمة، تؤثر وتتأثر، تستقبل وترسل فما كان من ضعف في كيان الأمة أحست به وتأثرت له، وما كان من خير وقوة علمته وتمثلته ليعود نفعا عليها وعلى أسرتها، وحينما نرى كثير من المجتمعات نرى فيها اهتماما أكبر بالرجل كمًا وكيفاً، يتقدم هذا الاهتمام على الاهتمام بالمرأة بل قد يكون على حسابها في التربية والتعليم بما أثر في وجود ظواهر سلبية في شخصية المرأة ودورها ورسالتها.
وعلى الرغم من أن المرأة المسلمة بدأت تنال حظا من التعليم والاهتمام على مستويات رسمية وشعبية إلا أن هذا التعليم والاهتمام تأثر كثيرا بمفاهيم غير إسلامية، تؤكد مثلا على عمل المرأة ووظيفتها خارج البيت أكثر مما تؤكد على الأمومة وقيادة الأسرة، توهم المرأة بخيال حرية خطرة تهدد معتقداتها وسلوكها وكيفية أسرتها، إن الإعلام في أكثر البلدان الإسلامية لا سيما من خلال القنوات الفضائية التي تتابعها وتشاهدها المرأة يعمل على تقديم النماذج النسائية التي يطلبون تمثلها في مجتمعاتنا الإسلامية وأن تقلدها نساءنا إنها نماذج تعيش في بيوت جميلة، وترتدي الثياب الجميلة أيضا، وأحيانا تمثل القيم للناس بل ونساء التاريخ الإسلامي الطاهرات العفيفات، ولكن لا تسأل عما وراء ذلك كله من تهتك قِيَِمِي، تحلل عقدي يؤدي في النهاية إلى كون المرأة سلعة في جنبات سوق نخاسة عالمي ينظر التجار فيه إلى الأخلاق وكأنها تراث أو كماليات، يوجد في الحياة بدائل عنها تجد سماسرة ذلك السوق يقتلون المرأة باسم الحرية، فهم يكسبون المال بفتاة الغلاف ويروجون مصنوعاتهم بصورة امرأة متبرجة أو شبه عارية .
إننا كأولياء على النساء يحتم علينا الإسلام أن نجمع جهودنا في صياغة برامج تربوية لإصلاح المرأة وإعادة دورها المنشود، أن نكرس جهودنا في إعداد موسوعة علمية تتناول شؤون المرأة وشجونها، همومها واهتماماتها، حاضرها ومستقبلها، وأن نعمل بعون الله ثم بالتعاون المثمر البناء مع كل مؤسسة عامة أو خاصة، رسمية وشعبية بل مع الجهود الفردية لننقل التصور إلى حقيقة مرئية، ولنعبر من جموح الخيال إلى طموح الواقع ومن النظريات إلى التطبيقات، ولنبدأ مثلا مع بداية العام الدراسي للمرأة بالتأكيد على العلاقة بين القراءة والفعل، بين المدرسة الشارحة والمدرسة السالكة المطبقة، بين الإسلام بوصفه خِيَِرة الله للناس وصبغة الله التي أرادها للبشر: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ، لنساهم في وجود العلم والمعلّمة والإرادة للذين يجعلون بناء العقيدة في شخصية الطالبة أكبر همهم ويحضونها على طلب العمل لنفع دينها وأمتها ودنياها، أخرج البخاري أن رسول الله قال: ((أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران))، وقال عروة بن الزبير: " ما رأيت أحدا أعلم بطب ولا بفقه ولا بشعر من عائشة "، يجب أن نساعد في وجود العلم والمعلمة الذين يعدون المرأة الزوجة والمرأة الأم، والمرأة المنتجة مثل أن يعدوا المرأة لوظيفة تخالف طبعها وطبيعتها لتقضي عليها أمًا وزوجة.
ليساعد الآباء والأمهات والأولياء والأزواج المسؤولين في آرائهم ورُآهم، وليكن همُّ الكتَّاب والمثقفين والإعلاميين رفع دور المرأة وتوضيح حقيقته، ليتحدث الخطباء وليتكلم المحاضرون على المرأة الموجود والمرأة المطلوبة، عن الأم التي تخلت عن أمومتها للخادمات، وانشغلت بالأفراح والحفلات، ليتحدث الجميع عن المرأة التي انشغلت عن بيتها للثرثرة عند الجارات في أحاديث تفسد الدين ولا تنفع الدنيا، لنتحدث عن الأم التي صارت مجلات الأزياء ثقافتها مهملة كتاب ربها وسنة نبيها، لتكتب الأقلام وتنطق المنابر بأن المرأة المسلمة هي التي باعت لله نفسها، وبايعت على العفة والجد، ترى واجبها الأكبر في أداء حق ربها ثم في إرضاء زوجها، ورعاية أطفالها وبيتها، قال : (( إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)).
لتكتب الأقلام عن المرأة المسلمة التي تكون مباركة حيث ما حلت فلا تختصر الزوجية بالطبخ ولا تختزلها في الملبس، ولا ترتضي تلك المرأة الخيرة بيتا لا مكان للعلم وحفظ القرآن وتداوله فيه، ولا تقترن برجل لا يعظم شعائر الله ولا يلتزم بشرائع الإسلام، يؤرقها جهل أولادها وسوء خلقهم، كما أنها تقلق لمرضهم وانحراف صحتهم، تخشى على بيتها الانحراف والفساد كخوفها من حيوان مفترس يتربص بأهل بيتها الدوائر، تسعى بكل جهدها لتعليم أولادها واختيار أحسن المعلمين لهم كما تجهد لإطعامهم واختيار لباسهم، روى مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: ((جاءت بي أم سليم – والدته – إلى رسول الله وقد أزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، قالت: يا رسول الله هذا أنُيَسْ ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له، فقال : اللهم أكثر ماله وولده)) فكان أنس من مكثري الصحابة في الرواية عنه .
إننا إخوة الإيمان نريد المرأة التي تؤثر ولا تستأثر، وتقنع ولا تطمع، تسير مع زوجها وفق قدرته فلا ترهقه بمطالب تجعله فريسة للديون.
إننا نريد المرأة التي تكون بشخصيتها المسلمة لا بوقاً لكل ناعق ناعب وليست مناعا لكل متربص بالبيت المسلم دوائر السوء.
إننا إذ نريد ذلك كله فإننا نطلب من الله عز وجل أن يعيننا على ذلك بفضله ومنّه، ونريد من مجتمعاتنا بكل طاقاتها وإمكانتاتها، نريد قادراً وقائداً ومقوداً العمل على تعبيد الطريق لتدعيم القيم الإسلامية والبراعم الإيمانية لكي ينعم الجميع، مجتمع آمن متراحم متماسك إن شاء الله ،وليضع لبنة الأم المدرسة التي تصنع أجيال المستقبل الواعد .
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
إذا كنا نريد نتائج عامة نافعة للأمة فإن المشاركة لا تكون خاصة ولنعلم أن جمع الجهود وتكريسها لتربية المرأة وإعادة دورها المنشود ورسالتها الواعدة هو خير ما يجتمع الناس له ويتواصون به: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) هذه صيغة عموم وجود صدرها يستلزم حضور لوازمها فإذا التزم الأكثر من المجتمع خيرا وطمأنينة، وإن قل الملتزمون بالمساعدة على إيجاد المرأة المسلمة ببذل الجهود وجمع الوسائل والدعاء الصالح والرأي الناصح والدعم بالمال ونشر العلم المقتبس من كتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة السلف الصالح وسلوك المسلمات الصالحات، إن قل كل ذلك فما أخال غدنا إلا كالحا ولا مستقبلنا إلا قاحلا .
وثقتي بالله عز وجل، ثم بالمسلمين الحريصين على مجتمعهم من أمثالكم تحملني على التفاؤل وتدفعني وإياكم لأن نُغَلَّب جانب الأمل بفضل الله ثم بجهودكم التي نسأله جل وعلا أن يبارك فيه ويضاعف أجرها ويضعف عدوها، ولنعلم تماما أيها الأحبة أن ليس في الدنيا خير من نسائنا ما تمَّسْكن بحجابهن وحافظن على آدابهن، وتقيدن بأخلاق وأحكام إسلامهن، وتتبعن خطا ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج خديجة وأسماء والخنساء ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأدبيات، والأمهات الديّنات الصَّينات اللائي وَلدن أولئك الرجال الذين كانوا قواد الميادين، وفرسان المنابر وأبطال الفكر، وسادة الدنيا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.
|