الحمد لله على إحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
عباد الله: فإن معرفة التوحيد فرض لازم وضرورة قائمة ليسلم للمسلم دينه ويبني عبادته وتوجهه إلى ربه على أساس صحيح، وينبغي أن يخاف على توحيده من الشرك الأكبر والأصغر ولا يقل: أنا فلان أو ابن فلان، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيف يشاء، قال تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام فإذا كان الخليل عليه السلام إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة وحده وقد كسر الأصنام بيده يخاف أن يقع في الشرك فكيف يأمن الوقوع فيه من هو دونه بمراتب، قال إبراهيم التميمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.
وليحذر المسلم من نواقض الإسلام فليدرسها ويفهمها وينظر موقعه منها وليسعى في تحقيق توحيده ويكن تحقيق التوحيد بتهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع القولية والاعتقادية والبدع الفعلية العملية ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات، لأن الشرك ينافى التوحيد بالكلية، والبدع تنافي كماله الواجب، والمعاصي تقدح فيه وتنقص ثوابه، وتحقيق التوحيد من وجهين: واجب ومندوب، فالواجب ما ذكر، والمندوب هو تحقيق المقربين الذين تركوا ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
وحقيقة التوحيد هي: انجذاب الروح إلى الله فلا يكون في قلبه شيء لغيره، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهية لما أمر الله قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون والظلم هنا هو الشرك.
ومن فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما، وأنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل وإذا اكمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية، قال : ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) [رواه البخاري ومسلم]. ومن فضائل التوحيد أنه يحصل لصاحبه الهدي الكامل والأمن العام في الدنيا والآخرة، وأنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
ومن فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وكمالها وترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت، ومن فضائل التوحيد أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات، فالمخلص لله تخف عليه الطاعات لما يرجو من الثواب، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخط الله وعقابه، ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.
ومنها أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي فيكون المستعبد لله لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه فيتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
ومن فضائله أنه إذا تحقق في القلب الإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، فترجح كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض وعمارها من جميع خلق الله، قال الله في الحديث القدسي: ((يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)) وكما في حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله التي وزنت تسعة وتسعين سجلاً من الذنوب كل سجل منها يبلغ مد البصر، وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها لا تبلغ به هذا المبلغ لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريب مما قام بقلب ذلك العبد صاحب البطاقة، ومن قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يحرمه على النار، فالذي يطلب وجه الله لابد أن يعمل لأنه مبتغى الشيء يُسعى في الوصول إليه، فالذي يريد النجاة من النار عليه أن يسعى في ترك ومجانبة موجباتها، أمامن تراه مقيماً على غيه وضلاله مبارزاً ربه بمعصيته غير مستح منه ولا خائف قد خلا قلبه أو كاد من خشية ربه، فإن حقيقة من كان كذلك أنه لم يسع ولم يطلب وجه الله في هذه الدنيا، لأنه مجرد الأماني والإدعاء لا تكفي، بل لابد من اتباع ذلك بالعمل الصادق، والسعي الحثيث لطلب رضوان الله، والبعد عما يسخطه ولا يرضيه، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله بالعلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك والقبول المنافي للرد، والإنقياد المنافي للترك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة المنافية للكراهية وركنا كلمة التوحيد: النفي والإثبات، نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها لله وحده، فكلمة التوحيد لا اله إلا الله هي أفضل الأذكار وأعظمها معنى، فهي الكلمة العظيمة، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وكلمة الإخلاص، وشرعت لتكميلها السنة والفرض، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، فمن قالها وعمل بها صدقاً من قلبه وإخلاصاً ومحبة أدخله الله الجنة على ماكان من العمل، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) [متفق عليه]. وتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله يكون بطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهي وزجر، فهو عبد لا يعبد ورسول لا يكذب.
وينقض تحقيق هذه الشهادة أمران الأول: فعل المعاصي لأن فعلها خروج عن اتباعه عليه الصلاة والسلام، الثاني: الإبتداع في الدين ما ليس منه لأن المبتدع يتقرب إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله، ولأنه قدح في الحكمة والشرع، فإن الدين كامل والإبتداع استدراك على الشريعة.
أيها المسلمون: إن المتأمل لمعنى التوحيد وتحقيقه وأنواعه وأثره على السلوك والمعاملة ليدرك تماماً أننا مدعوون جميعاً لتجديد هذا المعنى في النفوس وأن نستثير به القلوب ونحيين به المشاعر والأرواح لنكون أمة توحيد متعلقة بربها متوكلة عليه ومستعينة به توالي وتعادي فيه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتستقبل أوامره وأحكامه منقادة راضية مستسلمة وتجاهد في سبيله لا تخشى فيه لومة لائم، ثم إننا مدعوون لنغرس مثل هذه المعاني في نفوس أبنائنا ومن تحت أيدينا ونزرع فيهم تعظيم الله وأمره ونهيه وخشيته وشدة مراقبته في جميع الأعمال والأحوال، وبهذا تستقيم الحياة وتصفو من أكدار التخلف المقيت الذي يعيش في جنباتها ويخيم بظلة على أروقتها من غش في المعاملات ومجاهرة بالمعاصي وطاعة للنفس والشيطان وموالاة للكافرين أو تضييع لحرمات الله، لتصبح الحياة إسلامية حقة موصولة بالله عزيزة الجانب مرفوعة الرأس كريمة عند الله. |