أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، اتقوه وراقبوه، لئلا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا يبغي بعضكم على بعض، وتكونوا عباد الله إخوانا.
أيها الناس، إن كتاب الله عز وجل هو المنبع الثرُّ للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يفوز بالقوة والخشية من الله، المثمرة الاعتبار والادكار، اللذين يحفزان إلى الخير، وينقذان من ترادف الزلات، وحلقات الانحراف، ومن ندّ عن السويّ من ذلك فما هو بحي، ولو نما جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت، وإن طار في السماء أو غاص في الماء، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
ألا وإن المرء المؤمن حينما يغشى معالم كتاب ربه بقلب غير مقفول، لهو كمتعبد يغشى في مصلاه، ولربما أكرمه مولاه جزاء تدبره فلم يخطئ، دمع عينه مجراه، يغدو في خمائل القصص والعبر، يمتح من هذه، وينهل من تلك، متأولاً قول ربه ـ سبحانه ـ: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
إن مثل آيات القصص ـ عباد الله ـ لجديرة بحق، أن نقف عند معانيها، وما ترمي إليه من دروس وعظات، ينبغي ألا تذهب هدراً على ذوي الألباب؛ إذ ليس شيء أنفع للمرء من تدبر القرآن، وإطالة النظر في عواقب المثلات التي قد عفت، فيرى لعن اليهود ومسخهم، ويقرأ غرق فرعون ذي الأوتاد، وخسف قارون، ويتأمل عذاب إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فيعيش المرء مع القرآن حتى كأنه في الآخرة، ويغيب عن الدنيا حتى كأنه خارج عنها: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
عباد الله، يقول ربنا ـ جل وعلا ـ في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ [الأعراف:163-166].
هذه الآيات ـ عباد الله ـ إنما هي بسط في المقام لما أجمل في قوله ـ سبحانه ـ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ [البقرة:65]. والمقرر ـ عباد الله ـ أن من خصائص القرآن الكريم، الإجمال في موضع، والبيان في موضع آخر، لأجل أن تشرئب النفوس إلى معرفة التأويل، وربط الآيات القرآنية بعضها ببعض، وليس ذلك إلا للقرآن خاصة ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23].
أيها الناس، إن حاصل معنى آيات الأعراف هذه، هو أن اليهود المعارضين لرسالة محمد زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به؛ ولذا أمر الله نبيه أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور، هذه القرية أهلها من اليهود وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله؛ حيث إنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله ـ سبحانه ـ قد ابتلاهم في أمر الحيتان بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كانوا يوم السبت جاءتهم في الماء شُرّعا مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت بجملتها، ففتنهم ذلك وأضر بهم، فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وكانت في الحفرة ألقوا فيها حجار فمنعوها من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها، حتى كثر صيد الحوت، ومُشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164]. فلما لم يستجب العاصون؛ أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ [الأعراف:166]. فسرّي عنه وكساني حلةً.
عباد الله، إننا بحاجة ماسة إلى أن نرفع الستار، ونلي الضوء الواعظ على هذه الآيات الكريمات، التي تتمخض عنها دروس ثرة، ووصايا حثيثة، نوجز منها على سبيل المثال لا الحصر: ما أوضحه الله في هذه الآيات مما تنطوي عليه طبائع اليهود، من خبث ومكر، وتنكر للرسالة السماوية، يتلونون تلون الحِرْباء مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات، قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ [المائدة:60].
لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَـٰهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ [الدخان:30-32]. لكن التحول الذي حدث فيهم كان جذرياً، حتى أصبح لا يعرف من شمائلهم أنهم يقودون إلى تقوى، أو يعرفون بمهادنة، ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة وهي أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل جيل ما أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غداً إذا غير وبدل.
إن التاريخ صفحات متتابعة، يُطوى منها اليوم ما يطوى، ويُنشر منها غداً ما ينشر، وإن الله ـ جل شأنه ـ يختبر بالرفعة والوضاعة، بالزلزلة والتمكين، بالخوف والأمن، بالضحك والبكاء: وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44]. كل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وتُخرس الألسن التي مُرنت الجدل، فإن ناساً سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأنعام:23، 24].
ولأجل ذا ـ عباد الله ـ جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث.
ومن الدروس المستفادة ـ عباد الله ـ: أنه ينبغي على أهل العلم وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
ولا يمنع من التمادي على الوعظ بالأمر والنهي والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرضٌ فرضه الله قبل أو لم يُقبل، وأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبذلك تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبمثل أولاء يدفع الله البلايا عن البشر: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]. ولم يقل: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة؛ ولأجل ذلك قال النبي : ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) [رواه البخاري ومسلم][1].
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ [القصص:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
[1] صحيح البخاري ح (3346)، صحيح مسلم ح (2880). |