إن أول أمر تحفظ به نفسك من الذنوب والمعاصي هو المحاسبة والمراقبة؛ أن تراقب الله جل وعلا دائمًا وفي كل مكان، واعلم أن هناك من يراك ومن يطلع عليك، إنه الواحد الأحد، إنه الذي يحسب عليك كل نفس وكل خاطرة وكل نظرة وكل كلمة، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: 9، 10]، أي: الذي يخفي نفسه في الظلام ويغلق الباب على نفسه من الذي يراه؟! أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق: 14]، وصدق الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث أنشد يقول:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوت ولكن قل: عليّ رقيب
بلى يا عبد الله، إذا أتيت الله يوم القيامة فإنه يعرض عليك كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30].
اسمعي ـ يا أمة الله ـ إلى تلك المرأة التي غاب عنها زوجها في الجهاد وظلت أشهرًا على هذه الحال تصارعها الفتنة، فمر عمر بن الخطاب ببيتها فسمعها تردّد هذه الآبيات:
تطـاول هذا الليل واسودّ جـانبه وأرّقني أن لا خليـل ألاعبـه
فـو الله لـولا الله ربًّـا أراقبـه لِحرّك من هذا السرير جوانبه
واسمع ـ يا عبد الله ـ أمرًا آخر به تحفظ نفسك من المعاصي، إنه الخوف من الله جلّ وعلا، فلا تظنّ أنها معصية ثم تذهب، أو أنها نظرة ثم تضيع، أو أنه الفيلم الأخير ثم أتوب بعده، إن الله عز وجل يحذر الناس نفسه ويقول: وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. ألا تخاف ـ يا عبد الله ـ من الله وأنت تتجرّأ على معصيته؟! ويا أمة الله، أما تخافين وأنت ترتكبين معصية أن يأخذك الله ويقبض روحك؟! اسمعي إلى السابقين إلى الصالحين كيف كانوا يخافون ربهم، فهذا إبراهيم عليه السلام قيل: إنه كان يسمَع له من بعيد وهو في الصلاة أزيز صدرِه من شدة الخوف، وهذا داود عليه السلام كان الناس يزورونه يظنون أنه مريض وما كان به شيء إلا شدة الخوف من الله، كانوا أعدل الناس وأخشاهم لله ولم يكونوا عصاة، ومع ذلك كانوا أشدّ الناس خوفًا من الله، بل الصالحون يصلّون ويصومون ويتصدقون ومع ذلك يخافون أن لا يتقبّل منهم، وفيهم قال جل شأنه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، فإن كان هؤلاء الصالحون المصلون المكثرون للخيرات يخافون على أعمالهم أن لا تقبل فكيف بالمقصرين؟! بل كيف بالذين لا يصلّون ولا يعرفون لله حرمة؟! كيف بالتي هجرت القرآن ولا تذكر الله؟!
اسمعي ـ يا أمة الله ـ إلى نبينا وهو أعبد الناس وأصلحهم كيف كان يخاف، تقول عنه عائشة رضي الله عنها: كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه، فتقول: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا غيمًا فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأنت إذا رأيته عرفت الكراهية في وجهك، قال: ((يا عائشة، ومن يؤمّنني أن يكون فيه عذاب؟! قد عذّب قوم بالريح، وقد رآه قوم فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24])). أما نحن للأسف الواحد يرتكب المعاصي وينتهك الحرمات وهو يضحك ويلعب ولا يبالي، يقلب رأسه في الفراش وهو مطمئنّ لا يصلي الصبح إلا إذا طلعت عليه الشمس ولا يبالي، ما بال قلوبنا قد قست؟! الواحد يرتكب الذنوب ولا يبالي!
اسمع إلى أبي بكر الصديق وهو أصلح هذه الأمة بعد رسول الله يقول عن نفسه من شدة الخوف من الله: (يا ليتني كنت شجرة تعضد). أما تخاف يا عبد الله وأنت يا أمة الله؟! اسمعوا إلى أولئك الأربعة نفر الذين سافروا إلى بلاد من أجل الزنا والمعاصي، فإذا بهم يدخلون إلى مرقص من المراقص ويتمتّعون بشرب الخمر في تلك الليلة، والربّ جل وعلا قد نزل إلى السماء الدنيا في ذلك الوقت فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، وينظر إلى عباده أين ذهبوا، ذهبوا إلى المرقص، وماذا عملوا؟ شربوا الخمر ورقصوا، وبينما هم مشتغلون بتلك المعاصي في ذلك المرقص إذا بواحد منهم يسقط مغشيًا عليه حضرته الوفاة، فقال له أحدهم: قل: لا إله إلا الله، فقال له وهو يحتضر: زدني كأسًا من الخمر، فما يزال يرددها حتى خرجت روحه، نسأل الله العافية وحسن الخاتمة.
أما تخافين ـ يا أمة الله ـ أن تكوني على معصية في ليلة هي آخر ليلة من حياتك؟! أما يخاف أحدنا وهو راكب على سيارة يعصي الله ثم يختم الله له بسوء الخاتمة في حادث؟! قال : ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)).
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحدكم يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، فالبدار البدار، البدار إلى التوبة والعمل الصالح والثبات على ذلك حتى الممات.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يثبتنا على دينه، وأن يصرف قلوبنا إلى طاعته، وأن يختم لنا بالصالحات أعمالنا، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه. |