علمت يا عبدالله أن الغيبة محرمة بالإجماع وإنها كبيرة من الكبائر تجب التوبة منها إلى الله تعالى، فاعلم أنه لاتباح الغيبة ولا تجوز إلا لغرض شرعي صحيح لايمكن الوصول إليه إلا بالغيبة، من ذلك: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم الى القاضي أو الى من له قدرة وولاية على إعطائه حقه من ظالمه فيقول: ظلمني فلان بكذا، ودليل ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح (أي بخيل) وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) وتباح الغيبة عند الإستفتاء كأن يقول للمفتي: ظلمني أخي فما هو طريقي في الخلاص منه، وتباح الغيبة عند الإستعانة على تغيير منكر أو دفع بلاء من مسلم، كما فعلت هند مع النبي في شأن زوجها.
وتباح الغيبة أيضاً عند تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر الذين يضرون غيرهم، بل قد تكون الغيبة واجبة اذا تعلق الأمر بالدفاع عن حديث رسول الله من أولئك الكذابين المجروحين الذين يختلقون أحاديث من عندهم وينسبونها ظلماً وزوراً الى رسول الله ، ومن ذلك أيضاً المشاورة في أمور الزواج أو المشاركة في مشروع أو المجاورة في المسكن، كأن يطلب منك ولي البنت رأيك في شاب تقدم لخطبتها فيجب عليك أن تذكره بما تعرف ولا يعد ذلك غيبة وقد ثبت في الحديث قوله : ((ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) أي مطل الغني وهو الذي يؤجل موعد تسديد الديون مرة بعد الأخرى، وكذلك تباح غيبة الذي يجهر بفسقه أو المبتدع ببدعته فعرضه هدر، لأنه استهان بربه وهتك حرمته وستره فجدير به أن يجازى بمثل عمله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إستأذن رجل على رسول الله فقال: ((أئذنوا له بئس أخو العشيرة))، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام؟ قال: ((إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه)) قال النووي رحمه الله تعالى: أحتج البخاري بهذا الحديث على جواز غيبة أهل الفساد والريب.
ومن الأمور التي تبيح الغيبة التعريف بالإنسان إن كان معروفاً بلقب معين كالأعوج والأعمى، ولكن لايحل إطلاقه على وجه التحقير والتنقيص، وإن أمكن تعريفه بغير ذلك كان أفضل والدليل قوله : ((أن رجلاً يأتيكم من اليمن، يقال له أويس لا يدع اليمن غير أم له قد كان به بياض- أي برص- فدعا الله تعالى فأذهبه عنه الا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم فليستغفر لكم))، ثم أعلم أخي المسلم أن هذه الأمور التي تبيح لك الغيبة ينبغي أن تضبطها بما يلي:
- الإخلاص لله تعالى في النية، فلا تقل ما أبيح لك من الغيبة تشفياً أو نيلاً من أخيك أو تنقيصاً منه.
- إن أمكنك أن لا تذكر الشخص بإسمه فافعل إلا ما دعت اليه الحاجة.
- أن تذكر أخاك بما فيه لما يباح لك، ولا تفتح لنفسك باب الغيبة فتذكر ما تشتهي نفسك من عيوبه.
- أن تتأكد بهذه الغيبة وقوع مصلحة شرعية وإلا فلا.
- ثم اعلم أخيراً أن هناك أموراً يظنها الإنسان أنها ليست غيبة ولكنها في حقيقة الأمر غيبة، فقد يغتاب الرجل أخاه وإذا أنكر عليه قال: أنا مستعد أن أقول ذلك أمامه فيرد على هذا بأنك ذكرته من خلفه بما يكره مما فيه، وهذه هي الغيبة التي بينها رسول الله ، وأما إستعدادك للحديث أمامه فأمر آخر مستقل لم يأت فيه دليل يبيح لك أن تذكره من خلفه بما يكره.
- كذلك قول القائل في جماعة من الناس عند ذكر شخص ما نعوذ بالله من قلة الحياء أو نعوذ بالله من الضلال أو هدانا الله وإياه فإنه بذلك يجمع بين غيبة ذلك الشخص ومدح النفس.
- كذلك من الغيبة غيبة الصغير، ولا يصح قولهم: هذا صغير تجوز غيبته، فأين الدليل على ذلك، بل النصوص جاءت عامة في الكبير والصغيرة.
- كذلك من الغيبة التساهل في غيبة العاصي مطلقاً سواء جهر بالمعصية أولا، لأن قول النبي : ((الغيبة ذكرك أخاك بما يكره)) يشمل المسلم الطائع والعاصي.
أيها الناس: بعد ما علمتم هذا الداء الغيبة وخطرها وأنها من كبائر الذنوب وجب عليكم أن تحذروا منها وأن يشتغل كل واحد منا بعيبه وإصلاح نفسه ولا نشتغل بعيوب غيرنا فربما نعيب الناس ونحن أكثرهم عيباً، فالواجب على كل واحد منا إن كان صادقاً في قوله مخلصاً في نصحه اذا وجد في أخيه عيباً أن يتصل به ويناصحه من يغتاب إخوانه المسلمين أن يمنعه ويدافع عن أعراض إخوانه فإن النبي قال كما سمعتم آنفاً ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)).
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يجنبنا الغيبة والطعن في أعراض الناس وأن يصلح ألسنتنا بما ينفع وأن يرزقنا لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وعملاً متقبلاً. |