اعلم يا عبد الله وفقني الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الأمانة من الإخلاق الفاضلة، وأنها أصل من أصول الديانة، وهي ضرورية للمجتمع، لافرق فيها بين حاكم وموظف وصانع وتاجر ومزارع، ولا بين غني وفقير، ولا كبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير، وواجب الموظف ورأس مال التجار، وسبب شهرة الصانع، وسر نجاح العامل والمزارع، ومفتاح كل تقدم بإذن الله، ومصدر كل سعادة وفلاح بإذن الله، وليست الأمانة محصورة في الودائع التي تؤمن عند الناس من نقود وجواهر ونحوها، بل الأمانة أوسع من هذا كله، فالأمانة عمل لكل مالله فيه طاعة، وإجتناب كل مالله فيه مخالفة ومعصية، سواء كان ذلك في عبادة الله أو في معاملة عباده.
فالصلاة أمانة عندك مطلوب منك أن تؤديها في وقتها. إن لم يكن عذر شرعي كاملة - غير منقوصة مستوفية لفرائضها وأركانها وشروطها وسننها، وأداؤها بقلب خاشع وجسم مطمئن فإن فعلت ذلك فقد حافظت على الأمانة، وإن قصرت في جانب منها فقد ضيعت هذه الأمانة بقدر تقصيرك، والزكاة أمانة عندك أيها الغني مطلوب منك أن تؤديها في وقتها كاملة إذا جمعت الشروط، طيب بها نفسك لكي تطهر مالك وتزكي نفسك وتسلم من عقوبة إضاعتها، والصيام أمانة مطلوب منك أن تحفظه وتصونه عما يفسده، فلا يفكر عقلك إلا في خير ولا ينطق لسانك إلا حسناً ولا تسمع أذنيك إلا طيباً ولا تنظر عيناك إلا الى حلال ولا تمد يدك إلا إلى إصلاح ولا تسعى قدمك إلا إلى طاعة ومعروف، والحج أمانة الله في عنقك إن كنت ممن توفرت فيه الإستطاعة، فتنظر إلى المال الذي ستحج به أهو من حلال أم حرام، وهل جمعته من عرق جبينك أو جمعته من دماء الناس وسرقة أموالهم بغش أو رشوة أو رباً أو نحوها، وهل تريد بحجك سمعة ورياء أو تبتغي به وجه الله، المهم أن تفتش في نفسك قبل العمل لئلا تخسر الدنيا والآخرة، وبقدر ما يكون الإنسان مقصراً في عبادة من هذه العبادات يكون غير موف لأمانته تماماً، فينبغي لك أيها المسلم أن تستحضر في كل ساعة، وفي كل نظرة ولفتة وفي كل إشارة وعبادة وفي كل حركة وسكون أنك مطالب بالأمانة، فلسانك أمانة عندك، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بعباد الله والقذف والفحش ونحو ذلك مما نهى الله عنه وأستعملته في ذكر الله وتلاوة كلامه فقد حفظت هذه الأمانة، والأذن أمانة، إن جنبتها إستماع المحرمات من الغيبة والملاهي والغناء واستعملتها في إستماع ما ينفعك في الدنيا والآخرة فقد حفظت الأمانة، ورجلك أمانة عندك، إن إستعملتها بالمشي إلى ما أمر الله كإكثار الخطوات الى المساجد لحضور الصلاة مع الجماعة أو منعتها من السير الى كل ما يغضب الله فقد حفظتها، وكذلك الفرج، إن جنبته الزنا وكل مانهى الله عنه وأستعملته فيما أباحه لك الله فقد حفظته، قال تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين وكذلك عقلك إن إستعملته فيما ينفعك ولم تستعمله في المكر والخداع والكيد للمسلمين فقد حفظته.
ومن معاني الأمانة أن يوضع كل شئ في مكانه اللائق به والمناسب له، فلا يعطي منصب الا لمن هو أهل وكفؤ له، أما من يعجز عن القيام به ويهمله فلايجوز إسناده اليه فعن أبي ذر قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني – أي ألا تعطيني ولاية أو إمارة – قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه)) فأين نحن من أبي ذر وأولئك الرجال الذين شهد لهم رسول الله بالخير؟.
إن الولاية أو المنصب أو الحكم شرطها: العلم والقوة وحفظ الأمانة، فالواجب أن يختار للعمل فيها أحسن الناس قياماً بها، و\أما ان أختار شخصاً لهوى أو رشوة أو قرابة فهذه خيانة من ولاه أو اختاره، قال : ((من أستعمل رجلاً على عصابة – جماعة – وفيهم من هو أرضى الله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) وعن معيقل بن يسار قال: سمعت رسول الله يقول: ((مامن عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) وفي رواية لمسلم: ((ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم أو ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)).
أيها الناس: إن الأمة التى لا أمانة هي التي تنتشر فيها الرشوة وتهمل الأكفاء وتبعدهم وتقدم الذين ليسوا أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة التي قد وقعت فقد جاء عن النبي أن رجلاً سأله عن الساعة فقال: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال: وكيف أضاعتها؟ قال: إذا وسِدَ الأمر لغير أهله فانتظر الساعة))، ومن الأمانة أن لايستغل الإنسان منصبه الذي عين فيه من أجل منفعة له أو إلى قريبه، كأن يأخذ زيادة على مرتبه بطرق ملتوية، إما بتناول رشوة وإما بتناول رشوة بإسم هدية، يتناولها هذا الخائن بأي وسيلة كانت، ثم مع هذا يريد أن يحللها بنوع من أنواع التأويلات. ألا فليعلم أن كل ذلك غش وخيانة وتلاعب بالدنيا، وما أخذ فهو سحت وأكل أموال الناس بالباطل لأنه ثمرة خيانة وغدر وإستغلال للمنصب، فاسمع يرحمك الله ما قاله نبينا محمد فيما رواه مسلم: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً – أي سرقة على وجه الخيانة – يأتي به يوم القيامة فقام إليه رجل من الأنصار كأني أنظر إليه. فقال: يا رسول الله: اقبل عني عمل. قال: ومالك؟ قال: سمعت تقول كذا وكذا. قال: وأنا أقوله الآن: من أستعملناه منكم في عمل فليجأ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ، وما نُهي عنه انتهى))، وقد إستعمل النبي رجلاً على جمع الصدقة فلما رجع هذا الرجل قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي. فخطب النبي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء أو بقر له خوار أو شاة تيعر))، فاللهم اجعلنا من الأمناء السعداء وجنبنا الخيانة الموجبة للشقاء أقول ما تسمعون والحمد لله رب العالمين.
|