أما بعد:
وما يزال الحديث مستمراً عن موضوع العولمة، وقد أطلنا بعض الشيء في هذا الموضوع وذلك لخطورة وعمق هذا الأمر، ثم لتعدد مجالاته والتي لم ننتهي حتى الآن إلا من مجالين فقط وهما المجال الاقتصادي والمجال الثقافي.
أيها المسلمون: إنه يراد في ظل العولمة أن تذوب كل العقائد والآراء والأفكار ولا يبقى إلا الفكر الغربي المادي، وكما قال المنادون لهذه العولمة عندما قال قائلهم: اخلطوا عقائد الأديان الخمس واجعلوها مزيجاً واحداً لا تجدوا صراعاً على وجه الأرض. هكذا يراد للمسلمين أصحاب العقيدة النقية المعصومة بالوحي الإلهي يراد لهم أن يذوبوا مع العقائد المحرفة والأفكار المنحرفة.
إن العولمة لا تعني انتقال البضاعة والخدمات، والنقد والمعلومات، ولا تعني أن يكون هناك مجال للاختيار، فيختار الناس ما ينفعهم ويتركوا ما يضرهم، وإنما العولمة في حقيقتها تعني أن نقبل الكمبيوتر مع الموضة، والتقنية مع الثقافة، والنظرية الفيزيائية والكيميائية مع الذوبان الاجتماعي والانصهار الأسري، أن نقبل الغرب مادياته مع عاداته وأخلاقه ورذائله.
إن العولمة هي استمرار لتحركات الغرب لاخضاع الآخرين، هذه التحركات التي بدأت بغزوات الاسكندر المقدوني وغزوات الصليبيين مروراً بكل حرب خاضها الاسلام مع الشرك والجاهلية، إنها حرب استُبدل فيها المدفع والطائرة والقنبلة، بالكلمات والمصطلحات والوسائل الحديثة، فهذه الحرب تُشنّ بالعبارة الحريرية الناعمة وترفع شعارات براقة مثل شعارات حقوق الانسان وعبارات الأعراف الدولية.
إذن فالعولمة التي يروجون لها تعني أن تتخلى كل أمة وخاصة أمة الاسلام عن شخصيتها وعقيدتها ومبادئها، وأن تعلن اتباعها لهم، والأخذ بأنماط سلوكهم من اقتصادية وتربوية وتشريعية وإعلامية، ومن خالف الغرب في ظل هذه العولمة شنّوا عليه النكير وحاربوه إما جزئياً أو كلياً أو تدريجياً، والاتهام جاهز ومُعلّب إنهم يتهمون المخالف لهم والرافض لعولمتهم بأنه مخالف للأعراف والقوانين الدولية وأنه رجعي متخلف ولا يصلح أن يعيش في هذا العصر.
نواصل الحديث عن العولمة فنقول المجال الثالث من مجالات العولمة هو المجال الاعلامي: إن ثورة الاتصالات التي سيطرت على العالم اليوم جعلتها قرية كونية صغيرة بحيث وجد ما يسمى بمجتمع الاعلام العالمي، وتنبع خطورة عولمة الاتصالات من كونها وسيلة فعالة للسيطرة على الادراك والوعي، وربطه بصور ذات طابع اعلامي تحجب العقل وتشل فاعليته وتنمط الاذواق وتقولب السلوك.
ويدخل في نطاق عولمة الاعلام ما يسمى بعولمة الخبر، لقد أصبحت بعض المحطات كـ CNN هي مصدر المعلومات للجميع، بل وصل الأمر إلى زعزعة ثقة معظم الشعوب بإعلامهم، وما يتلقونه من أخبار، وأصبح الذي يتحكم في صياغة عقول الناس هي إذاعة لندن ومنتكارلو وصوت أمريكا وعدد من المحطات الفضائية التي تخصصت في الأخبار، وليت الأمر وقف عند سماع الخبر بل تعدى إلى التحليل وصار حديث الناس في المجالس فيما يتعلق بأخبار العالم وما يدور حولها من تحليلات وتوقعات مأخوذة عن هذه المصادر الغربية. فتسأل أين موقع قنواتنا الفضائية من الإعراب في مواجهة هذا التيار الجارف وماذا يقدم سواء فيما يتعلق بمصداقية الأخبار وتحليلاتها أو في ما يتعلق بمقاومة الثقافة الغربية المسلطة على عقول وقلوب أبناء الأمة من خلال عولمة الاعلام. الجواب: إن إعلامنا غائب عن الساحة تماماً بل ويلاحظ على الفضائيات العربية النزوع إلى التمظهر فقط، إليك هذا المثال الحي: أردنا أن نقلد الغرب في بعض إعلامهم فيما يسمى ببرامج الحوار فاكتسحتنا هذه البرامج وصار يتوالد عندنا توالد النمل، وهي غالباً ما تكون مع نجوم السياسة ونجوم الفن وغيرهم أحياناً، والشغل الشاغل لهذه البرامج أن تكون على الهواء، وأصبح هناك تصارع محموم في عدد من البرامج التي تبث على الهواء، فالمهم أن يكون البرنامج على الهواء. أما الموضوع وأما المنهج أما المتحاورون فهي جميعها أمور تأتي في الأهمية بعد ذلك بكثير، المهم على الهواء مباشرة.
وأيضاً يلاحظ على فضائياتنا أنها تفتقر إلى الجدية أو العمق في التناول، ومفاجآت التدخلات التلفونية هي عنصر التشويق الرئيس في تلك البرامج، وهي تداخلات تبدو غالباً إما مفتعلة أو مرتبة ومعدة سلفاً، وإما ساذجة أو بليدة، ففي الغالب يكون كلاماً كثيراً ولا تخرج بشئ، بل إن بعض التدخلات يقصد بها أحياناً استفزاز عواطف المشاهد أو إيذاء مشاعره أو خدش حيائه، وذلك لسفاهتها أو لإسفافها وتبذلها، وقد سمعنا عن تدخلات تلفزيونية من هذا النوع لايراد لها إلا أن تتحدى أحاسيس المشاهد الدينية أو الأخلاقية، بل إن في بعض تلك التدخلات التلفزيونية استخدام للسخرية من الفضائيات نفسها ومن مذيعيها، وهي تدخلات أقل ما يمكن أن توصف به أنها جارحة وبذيئة.
وهذه البرامج غالباً ما تعتمد على البطل الواحد المتكرر، وهو هنا مقدم البرنامج أو مقدمته، وهو بالنسبة إلى أي من الجنسين يجب أن تتوافر فيه نسبة من الجرأة ونسبة من صفاقة الوجه وقدر لابأس به من الوقاحة! ووقاحة المذيع قد تكون في بذائته أو في اسفافه أو في قدرته على استفزاز ضيوفه أو مشاهديه بطرق أو ذرائع لامبرر لها. ووقاحة المذيعة هي في هيئتها أو في شكل ملبسها أو في طريقة جلوسها، وقد تكون وقاحتها في صوتها أو في ضحكتها أو في أسلوب حديثها مع الضيف أو في مواجهة الكاميرا. ونكاد نجزم بأن هناك برامج كثيرة تطغى فيها الإثارة الحسية أو الجسدية أو الجنسية على أي شيء آخر سواها حتى أننا لنحس حقيقة بمشروعية الظن بأن تلك البرامج إنما وجدت أصلاً لتحقيق مثل هذا الهدف، هذا إن كانت هناك أهداف أخرى غيره.
أيها الأحبة: إن أشد ما يلاحظ على فضائياتنا أنها إنما ولدت في معظمها ضمن سياق غير طبيعي وغير منهجي، فهي تتكاثر لا من أجل طرح مزيد من المعضلات التي تواجه الانسان المسلم، وإنما من أجل الاستجابة للاعتقاد الراسخ عند أصحاب الفضائيات بأنها الطريق الوحيد أو الطريق الأمثل لاستقطاب مزيد من المشاهدين. إنها وبكل صراحة فضائيات تتجه إلى السهل وإلى الطفولي وإلى الساذج بل وفي كلمة واحدة برامج هدفها إلهاء الناس عن المفيد، وهي في عمومها برامج تافهة تفتقد إلى الجدية والتشويق، وهي لا تعطي شيئاً ولا تثري شيئاً ولا تسمن ولا تغني من جوع، بل إنها لا تزيد الناس إلا بلادة في الحس، وتكلساً شديداً في التفكير، وحثاً مقيتاً على القعود عن تنمية المعلومات وتغذية الذاكرة، بل وتجنح إلى الاسفاف والمجون، إننا لانكاد نجد فرقاً بين بعض الفضائيات وبعض المراقص وأماكن الدعارة في بعض الأزقة العربية الغارقة في الأضواء والشهوات، بل إن المشاهد ليرى في الفضائيات العربية ما لا يتيسر له رؤيته في علب الليل العاجة بالأجساد والرغبات، فمحطة من تلك المحطات مثلاً ترقص فيها الراقصة شبه عارية بل هي بالفعل عارية، والمُخرج يريك من مفاتنها وأفخاذها ما لا يمكن أبداً أن يراه أي سهران أو سكران في المرقص نفسه.
أما الأغاني العربية فحدث ولا حرج، فالملابس والحركة والديكور والاضاءة وطريقة الأداء كلها هي في تلك الأغاني للإغراء الجنسي، سواء كان ذلك في جانب المغنين من الرجال أو المغنيات من النساء، ليس هناك موضوع آخر في تلك الأغاني غير إثارة الغرائز والتركيز على المفاتن، إن هذا الوضع لا نجد له سوى وصف واحد لائق، وهو العبث والميوعة والاشتغال بالتافه والأدنى والحرام. وأما عن زاوية الاعلان والدعاية في الفضائيات العربية فليس في منأى عن الولوغ في حمأة الإثارة الجسدية، بل نحسب القائمين عليها يعدون هذا النوع من الأداء الأكثر تأثيراً في إقناع المشاهد بالسلعة أو الخدمة المراد الترويج لها، وغالباً ما يكون استخدامهم لنوع الاثارة بعيد كل البعد عن مضمون الدعاية وفي غير مكانها الصحيح. وهذا غيض من فيض.
إن الفضائيات العربية مشغولة بإلهاء الناس عن المفيد ومشغولة بالاحتفاء بالهين والسهل والرخيص وغير العميق، ومشغولة بتسطيح الأفكار وتمييع القضايا الأساسية في حياة الأمة وتخديرها وإماتتها. لقد ظن الكثيرون من الغيورين على مصالح الأمة أن تلك القنوات عند ظهورها سيكون لها دور في دفع عجلة التقدم والحضارة، وتوقعوا أنها ستكون المبددة لوحشة الأمة في طريقها الطويل نحو المستقبل، فإذا بها تفاجأ عندما فَتحت عينها على الحقيقة أن هذه القنوات ومع كل أسف مع ما يصرف عليها من مليارات من الأموال لاشأن لها في النافع المفيد، ولا شأن لها بالمستقبل، ولا شأن لها باستغلال هذه القنوات في التعليم والتثقيف، ولم تقم أيضاً على أقل تقدير بالمحافظة على تراث الأمة من الغبار والاهمال، بل إنها تزيد الواقع غموضاً، وركزت عوضاً عن ذلك على غرائزنا الصغيرة وعلى أفكارنا الصغيرة وعلى ألعابنا الصغيرة، وهكذا ستظل أجيالنا إن لم يتغمدنا الله برحمة منه وفضل، ستظل الأجيال متروكة لاجتياح العولمة الاتصالية والاعلامية، فليس أمام تلك الأجيال إلا أن تستهلك ثقافة الآخر أكثر مما تستهلك ثقافتها، وتصير تبحث عن إجابة لأسئلتها المعاصرة عند أولئك أكثر مما تجد ذلك عند أهلها والله المستعان.
هذه هي أوضاع الفضائيات العربية التي تعد أهم عنصر فعّال في مجال الاعلام وهذه هي بعض وجوه الحقيقة المؤلمة فكيف نريد بعد ذلك أن نقاوم تيار العولمة الاعلامية وهذا هو واقع إعلامنا، وهذا لايعني أن الإعلام الغربي إعلام نظيف لا بل هو أشد وقاحة ودنائة، لكن لديه في المقابل ما يقدمه ويطرحه بقوة بل ويفرضه على الآخرين، من برامج علمية أو تاريخية أو حتى أخبار صحيحة نافعة، من أجل هذا وغيره فقد غزت العولمة الاعلامية بلاد المسلمين، ومع الأسف البديل الموجود هو مثل ما سمعتم من أمثلة.
فنسأل الله جل وتعالى أن يهيأ لهذه الأمة من أمرها رشدا، وأن يبصرنا بواقعنا، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيعونه ويتبعون أحسنه أنت ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
|