أما بعد:
حديثنا اليوم هو تممة للحديث في الأسبوع الماضي عن موضوع العولمة. هذا المخطط الذي يهدف إلى توظيف التفوق التقني لتمكين مصالح الطرف الأقوى واستبعاد الشعوب الضعيفة واستنـزاف مواردها وإرهاب شعوبها وعرقلة مسيرتها وإخماد طاقاتها وطمس هويتها وتبعية فكرها ووأد حركة الأصالة والإصلاح والتطوير في بناء ثقافتها. وبهذا المفهوم تكون العولمة هي الأخطبوط الذي يلف عنق العالم الاسلامي، إنه غزو واستعمار غربي تقني ثقافي اقتصادي وسياسي أشد ضراوة وشراسة من أي لون من ألوان الاستعمار الغربي الذي سامت خسفه الإنسانية.
إن العولمة اليوم هي الليبرالية وهي الديمقراطية بالمفهوم الغربي وهي الشركات المتعددة الجنسيات وهي السوق المالية المتوحدة المفتوحة وهي التجارة الحرة ورأس المال الطليق الذي لايحده دين ولا شرع، وهي شبكات الاتصال المتقدمة وهي تدفق المعلومات وتبادلها وهي السهم الذي يخترق السياسة ويخترق الهياكل الاقتصادية ويخترق المقومات الثقافية ويخترق أنماط التفكير ويخترق السلوكيات الخاصة ليدخل بعد ذلك بكل هدوء على المجتمعات ويفرض ما سبق ذكره كله. إن الهدف المعلن من العولمة هو إزالة الحواجز وتذويب الفروق بين المجتمعات الإنسانية المختلفة، لسيادة آلية رأس المال التي تأبى أي قيود، وآلية المعلومات التي تأبى أي رقابة.
ولقد بدأنا في الأسبوع الماضي بمقدمة عن هذا المصطلح الجديد – العولمة – ثم تحدثنا عن أحد مجالاتها وهي العولمة الاقتصادية. وقلنا بأن خلاصته هو فتح الأبواب أمام المستثمرين من مختلف أنحاء العالم للاستثمار في أية دولة دون أي قيود. والمجتمع الذي يرفض هذا الشرط سيستخدم معه ما يسمى بالعقوبات الاقتصادية التي قد تصل إلى الحصار الاقتصادي الجزئي أو الشامل، وما يصاحبها من إجراءات سياسية ودبلوماسية، بل ورياضية، تعززها حملة إعلامية منظمة لحشد الرأي العام العالمي لتأييد هذه العقوبات والاجراءات التي تؤدي النتيجة المطلوبة من هذه الآلية البديلة عن أسلوب الحرب المعلنة، وهذه النتيجة يمكن التحكم فيها حسب نوع العقوبات وقوتها، فتثمر إزعاج المجتمع المستهدف ومضايقته، أو تعويقه، أو شله، أو تدميره تدميراً شاملاً أو جزئياً، إلى أن يخضع وتتم السيطرة عليه، وهذه الآلية تم اختبارها وما زالت مع دول عديدة. وعلى ذلك، فالقوى العظمى ذات المصلحة الحالية لن تفرط بمكاسبها، وعلى أساس أن الذي يسيطر حالياً هو الذي سيبقى مسيطراً في عصر العولمة إلى درجة العمل على إفناء الآخرين، فالمعركة التنافسية لن ترحم الضعفاء، وبدهي أن إجراءات العولمة تفترض الاعتماد على اقتصاد قوي وأنظمة سياسية واجتماعية مستقرة وبنى تحتية غير محدودة، وخاصة في نطاق الاستثمارات التي تتطلب رؤوس أموال باهضة، وهذا ما لا يتوفر لدول هشة لاتملك القدرة بذاتها على تأمين الضرورات الحيوية لشعوبها، فاختارت أو اضطرت للانجذاب إلى الأقطاب القوية كما في الحقيقة الفيزيائية في التجاذب المغناطيسي.
وأيضاً من وسائلهم في تحقيق العولمة الاقتصادية اتفاقيات التجارة الدولية والذي من خلاله تحقق العولمة شروطها، إنه فتح الأسواق العالمية أمام المنتجات الغربية بدون عوائق أو ضوابط، وعليه فلن تستطيع المنتجات المحلية مواجهة المنتجات المستوردة ومنافستها، مما يعني تعثر العديد من الأنشطة الاقتصادية، ويكون البديل المتاح هو: إما الاقتصار على الاستيراد، وهذا البديل قصير الأمد، حيث ستنضب أرصدة السيولة المالية ويزيد التضخم نتيجة الركود الاقتصادي، وإما بيع الأصول الاقتصادية إلى الشركات العالمية بحجة الإصلاح الاقتصادي واللحاق بركب المنافسة العالمية وهذا هو المطلوب.
وأيضاً من وسائلهم في تحقيق العولمة الاقتصادية وإخضاع المتمرد إغراقه بالديون فهل تعلم بأن الدول العربية كإحدى المناطق المستهدفة بالعولمة بلغت ديونها الخارجية عام 1995م (250) مليار دولار، وتتفاقم ديونها بما مقداره (50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة، ولاشك أنه كلما ارتفعت وتيرة الديون كلما ترسخت التبعية ووُجدت الذريعة للتدخل، فعن طريق القروض احتلت إنجلترا مصر، وعن طريق القروض احتلت فرنسا تونس في القرن الماضي، وبسبب هذه الديون التي بدأت بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين يعملان على إغراق الدول المستهدفة بالديون أصبح اقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً، يستطيع وبصعوبة بالغة ملاحقة خدمة الديون وفوائدها المتراكمة، فهي في الحقيقة وسيلة لبسط النفوذ على البلاد تماماً كما كانت في الماضي. فبين من ستكون المنافسة في ظل العولمة؟ وكيف ستكون مكانة مثل هذه المجتمعات النامية في العولمة؟ إنها مكانة البقرة الحلوب التي يراد لها ألا تخرج من الحظيرة.
أيها الأحبة: لننتقل إلى أخطر مجالات العولمة وهو العولمة الثقافية. ولقد كانت من أخطر أنواع العولمة لأنها تتدخل مباشرة في صياغة الفكر والسلوك الانساني بوسائل متعددة. ومن أجل هذا كانت معظم هواجس المفكرين والمربيين تتعلق بخوفهم من تأثير العولمة على المكونات الثقافية للشعوب. يقول وزير الخارجية الكندي: لئن كان الاحتكار أمراً سيئاً في صناعةٍ استهلاكية، فإنه أسوأ إلى أقصى درجة في صناعة الثقافة، حيث لايقتصر الأمر على تثبيت الأسعار، وإنما تثبيت الأفكار أيضاً.
إن العولمة الثقافية بلهجة واضحة هي: محاولة نقل ثقافة الغرب وبالتحديد الثقافة الأمريكية إلى معظم شعوب ودول العالم، إنها بتحديد أكثر ما يعبر عنه بعض المثقفين بأمركة العالم، ولكي يقبل الناس هذه الثقافة الدخيلة عليهم فإنهم لايبدأون مباشرة بتغيير المناهج ونمط التفكير، ولكن يأتونك من أبواب لاتخطر لك على بال منها: تغيير نمط المجتمع في تناول طعامه وشرابه وإقباله على وجبات لم يكن يعرفها، هذا باب، ثم باب آخر وهو طريقة تأثيثه لمنـزله، وباب ثالث طريقة خروجه ونـزهته مع أولاده، وباب رابع وخامس وسادس وعاشر، وبعد سنوات تجدك أخذت ثقافة تلك المجتمعات وأنت لاتشعر فإذا ما جاءت المناهج والأفكار كان المجتمع مهيئاً لقبول كل شيء. لعلك تريد مثالاً واقعياً تشاهده بنفسك على ما أقول، هل تظنون أيها الأحبة أنه من قبيل الصدفة وفي خلال أقل من عشر سنوات أن يغزو العالم كله وليس فقط مجتمعنا مطاعم الوجبات السريعة وبالأخص الشركات الأمريكية كما كدونالدز وأخواتها، وإقبال الناس عليها بشكل عجيب وطرح كل البدائل الأخرى، إنها حقيقة تعاني منها حتى أوربا نفسها الجناح الثاني للغرب، ولعل من أوضح الأمثلة على ما ذكرت أن فرنسا من أكثر الدول الأوربية مناهضة للعولمة الأمريكية بهذا الشكل، فاتخذت لمقاومة هذا التيار عدداً من التدابير، أولها أن الرئيس الفرنسي شيراك أصدر قراراً عارض فيه بشدة فتح مطعم ماكدونالدز في برج إيفل الذي يعتبره تراثاً يخص الفرنسيين وحدهم ولا يصلح أن تغزوه الثقافة الأمريكية. مع أن شوارع باريس مليئة بمطاعم الشركات الأمريكية. ثم فرضت على التلفزيون الفرنسي أن يخصص 60 من برامجه للانتاج الأوربي كي لايطغى الانتاج الأمريكي المتدفق على إعلامه. كما حجبت المساعدات المالية والمادية عن جميع التظاهرات الثقافية الفرنسية التي لاتجعل اللغة الفرنسية لغة أعمالها. وأخيراً ألحّت فرنسا على ألاّ ينتخب على رأس الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة بعد نهاية ولاية بطرس غالي من لايتقن الفرنسية وقد تم لها ما تريد في شخص كوفي عنان.
إن معظم من يعارضون العولمة الثقافية يرون أنها تتعارض مع الهوية القومية وتسعى للقضاء على التنوع الثقافي وإحلال الثقافة الغربية أو بلغة أصرح الثقافة الأمريكية بشكل خاص محل كل الثقافات الموجودة، والعولمة بهذا المفهوم تتعارض تعارضاً تاماً مع قواعد القانون الدولي.
فتأملوا رحمكم الله، هؤلاء وهم كلهم نصارى ودينهم واحد ومع ذلك لايرضون بالتبعية الثقافية لغير جنسهم، والمتأمل في حال أمة الاسلام في الوقت الراهن يرى العجب العجاب.
إن هناك جهوداً محمومة لتهيئة الرأي العام نفسياً وثقافياً للعولمة، بدءاً من انتشار سراويل الجينـز، وأزياء الموديلات العالمية، ومطاعم الوجبات السريعة الأمريكية ومشروباتها الغازية التي يعتبر افتتاح محلاتها ومصانعها تمهيداً للفتح الأمريكي وشعاراً عليه.
إن العولمة الثقافية برأي الخبراء والمفكرين تروِّج لثقافة الهمبرجر والكوكاكولا والغناء على الطريقة نفسها، وهي طلائع العولمة التي لا تبشر إلا بمزيد من الشقاء والتعاسة للبشرية.
إن أملنا بالله جل وتعالى لكبير، أن يحفظ علينا إيماننا وديننا، وأن يحفظنا من هذا الغزو المدبّر الذي يحمل في طياته كل شر ودمار، ولكن أيها الأحبة لابد مع الدعاء من عمل ومقاومة لهذا التيار، وأول طرق المقاومة هو كشف هذا المخطط وفضح هذه المؤامرة ثم المناعة الشخصية والأسرية حتى نصل بعد ذلك لحصانة المجتمع والدولة، وإن ثقتنا بربنا وديننا لكبير من أن تهزم ثقافة الميكي ماوس الإيمان الحقيقي الفعال، إيمان الغلام حين يُستدعى للموت فيطلب الشهادة شريطة أن يُنادى بسمع الكون وبصوت عال باسم الله رب الغلام. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
نفعني الله وإياكم بهدي. . .
|