أما بعد:
تطرح لنا وسائل الاعلام ومراكز البحوث في العالم بين فترة وأخرى بعض الشعارات وبعض المصطلحات والتي تحمل في طياتها عقائد وأفكار وسلوكيات تكون هي حديث الصحافة، وترددها وسائل الاعلام المختلفة شرقاً وغرباً، والمصطلح الذي يغزو العالم كله اليوم، والذي هو حديث رجال الفكر وصناع القرار هو مصطلح "العولمة". فما هي حقيقة العولمة؟ وماذا يهدف أصحابها من وراء رفع هذا الشعار؟ وما هي مجالات العولمة التي يريدون؟ وما هو موقف الاسلام منه؟ وما مدى السلبيات أو الايجابيات إن كان فيها ايجابيات التي تكسبها الدول الاسلامية من الانخراط في هذا المضمار؟ هذا ما سنحاول توضيحه بإذن الله عز وجل بعد توفيقه وتسديده في عدد من الخطب.
العولمة أيها الأحبة: هو مخطط رهيب وخطير يهدف إلى كسر جميع القيود بين شعوب ودول العالم، إنه مرادف لما دعت إليه من قبل الماسونية وما دعى وما زال يدعو إليه ما يسمى بالنظام العالمي الجديد من محاولة لطمس هوية كل أديان العالم وأفكار الشعوب ومعتقداتها، لتصبح مواثيق الأمم المتحدة التي صاغها الغرب وفكّر فيها وخاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي هي الدين الجديد الذي يُفرض على العالم كله.
فهو مخطط خطير يحاول أن يزيل كل شيء موجود بين جميع الدول بحيث تصبح الأخلاق والسلوكيات والأفكار والبضائع والشركات والدين كله سواء ويفتح جميع هذه الأشياء على مصراعيها.
وقد تقرأ أخي الحبيب في بعض الكتابات والمقالات أو حتى ربما تسمع مسميات أخرى لهذا الفكر، فقد تقرأ أو تسمع مصطلح: الكوكبة أو الكوننة أو الشوملة فكلها مترادفات لمعنىً واحد.
إن هناك جهوداً جبارة ومحاولات كبيرة ممن يقبعون وراء هذا الشعار إلى عولمة كل شيء: الاقتصاد والاستثمار، وعولمة الشركات والمعاملات التجارية، وعولمة الأفكار والثقافات، وعولمة المعلومات والاتصالات، وعولمة المشاكل البيئية والمناخية، وعولمة الأمراض والأوبئة المقاومة للصناعة، وعولمة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وعولمة الإرهاب والصراعات السياسية، وأخطر من هذا كله محاولة عولمة الدين.
إن مخطط العولمة يسعى إلى تحقيق ثلاث عمليات:
الأول: انتشار المعلومات، بحيث أن أية معلومة في أي مجال يمكن أن يكون متاحاً لكل أحد، وقد نجحوا في هذا من خلال ما أسموه بمعجزة هذا العصر وهو: "الانترنت" الذي من خلاله وأنت في بيتك وعن طريق الكمبيوتر الشخصي يمكنك أن تدخل على جميع الدول وأن تحصل على أي شيء تريد بالصورة والصوت خلال دقائق معدودة، وفي هذا فتح لباب من الشر عريض يفوق شر القنوات الفضائية بمراحل ومراحل.
العملية الثانية: تذويب الحدود، وهي محاولة لتحطيم الحدود الجغرافية بين دول العالم، وفي المرحلة الأولى تكون العملية اختيارية لمن يريد، وبعد فترة من الزمان الذي لايرضى ولا يوافق يبقى معزولاً عن العالم كله، وسيحارب عن طريق الحرب الباردة، ويحاصر اقتصادياً حتى يرضخ لهذا المخطط الرهيب، ولعل توحيد جميع دول أوربا يعتبر نواةً لهذا المخطط.
العملية الثالثة: زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمؤسسات والمجتمعات، وذلك عن طريق تسهيل حركة الناس والمعلومات وجميع السلع بين هذه المجتمعات ومع مرور السنوات تزيد معدلات التشابه وتختفي بعض الفوارق شيئاً فشيئاً خصوصاً إذا كانت شركات العالم واحدة وكذلك مؤسساتها وإعلامها وغير ذلك – هكذا زعموا.
أيها المسلمون: ينبغي أن لا نغفل من أن طرح هذا الشعار من خلال وسائل الاعلام الغربية ما هو إلا تطبيق للنظام العالمي الجديد الذي تسعى كل من أوربا وأمريكا بكل ما أوتوا من إمكانات إلى تحقيقه. ولا نغفل أيضاً من أن العولمة سيف مسلط ونوع من المؤامرة على أعناق الدول النامية ودول العالم الثالث، ولتتخذ منه الدول الكبرى قناعاً تخفي وراءه أطماعها في الهيمنة والسيطرة السياسية والاقتصادية، وتستخدمه كأداة للضغط والتخويف وكسر لقدرة الدول الصغرى على المقاومة دفاعاً عن مصالحها.
أيها الأحبة: إن العولمة سيكون تطبيقها على منهج – الكيل بمكيالين – كباقي الشعارات والادعاءات التي رفعت من قبل. وبلغة صريحة فإن الحضارة الغربية لا تصلح لقيادة العالم في ظل العولمة أو في ظل النظام العالمي الجديد، لأنها وبكل تأكيد ستقوم على الكيل بمكيالين، سواء في مجال القيم أو في مجال السياسة أو في مجال الاقتصاد أو في غيرها من مجالات العولمة والتي سيكون عنها حديث بالتفصيل، إن الغرب في ظل العولمة سيسعى إلى اصطناع قيم جديدة نصيب الدين فيها قليل، ونصيب الأخلاق فيها أقل، والتطفيف في الكيل واضح، فهي تطفف في كيلها مع اليهود وتنقص في كيلها مع المسلمين والعرب فلها مكيالان وميزانان، كما أنها متعصبة للجنس الأبيض. فلا ينبغي تصديق بأن العالم سيسعد في ظل العولمة، أبداً، سيزداد الفقير فقراً، وسيبقى المستورد مستهلكاً لايعطى فرصة للابداع، بل سيتاح الفرصة في عالم العولمة للغني أن يزداد ترفاً وجبروتا، وللقوي أن يزداد تسلطاً وتحكما.
خلاصة القول: أن العولمة، العدل فيها معدوم، والظلم فيها موجود، والإيمان بها كفر، والسؤال عنها ومعرفتها واجب وحتم.
أيها المسلمون: وإذا أردتم نموذجاً حياً لواقع مرير يمر بها العالم هذه الأيام لظلم ظاهر موجود وعدل معدوم فهو ما يحصل اليوم على أرض كوسوفو من إبادة عرقية للمسلمين، وإلا فما ذنب هذه الآلاف من الأسر المشردة، وهؤلاء الذين يذبحهم الصرب ذبح النعاج على مرآى ومسمع من العالم، فأين العدل المزعوم؟ وأين القرارات التي لابد أن تنفذ؟ وأين الذين يدّعون وجود مجلسٍ للأمن؟ لقد ظهر جلياً لمن أراد الانصاف سياسة الكيل بمكيالين، وظهر جلياً في كوسوفو ومن قبلها في أرض الله أن شريعة هؤلاء هو التسلط للأقوى، وأن هناك تعصباً واضحاً لجنس معين ولعرق معين، وأن هناك حرباً لا هوادة فيها ضد دين، ودين معين فقط يحاولون تقتيل أبناءه ونهب خيراته وأمواله، وإضعاف قدراته والتسلط والتحكم على شعوبه ودوله.
وقد يتساءل البعض بأن هناك مساعدات تقدم من دول غربية كافرة شاهدناها عبر وسائل الاعلام من خيام نصبت للمشردين، وهناك تدخل مباشر من بعض الدول لايقاف هذه الحرب فكيف يفسر هذا؟ يفسر هذا بالجواب الصريح للرئيس الأمريكي عندما قال: إذا لم نقم بالجزء الذي يخصنا من مهمة حلف الناتو فسنُضعف التحالف ونعرض الزعامة الأمريكية في أوربا للخطر.
إذن: هي لغة المصلحة، والمصلحة عند هؤلاء هي عقيدة سياسية، والنبرة المصلحية كانت واضحة جداً في كتاب "بين الأمل والتاريخ" عندما قال المذكور نفسه: عندما تصبح التحالفات ضرورية فإن علينا أن نقيمها، وعندما تصبح المفاوضات ضرورية فإن علينا إجراءها، وعندما تصبح الاستثمارات مطلوبة فإن علينا تقديمها، وعندما تصبح القوة مطلوبة لضمان أمننا فإن علينا استعمالها. هذه هي لغة القوم وهذا هو أسلوب تعاملهم مع الآخرين فإلى متى أيها الأحبة ونحن نعيش سطحية في التفكير، وجهلاً لما يراد لنا وبنا، كفانا أيها المسلمون جهلاً بواقعنا، وكفانا سذاجة في تناول الأمور، وإن لم نكن بمستوى هذا التحدي العالمي ونحاول جادين للارتقاء بأنفسنا فإن العاقبة والعلم عند الله تعالى تكون غير سارة. الأمم من حولنا تخطط وتتعلم وتنفذ وكل يوم تسمع بإنشاء مركز للبحوث هنا أو هناك وفي كافة المجالات، ونحن ما يزال شبابنا من رواد المقاهي الشعبية، ويضيع ليلهم جلوساً على الأرصفة والله المستعان.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه . .
|