أما بعد:
من عقيدتنا في يوم القيامة أن فيه حوضاً يُنصب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع السلف على هذا، وآمن به المؤمنون (كل من عند ربنا).
قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لكل نبي حوضاً، ,وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني أرجوا أن أكون أكثرهم وارداً)) وفي حديث آخر: ((إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحاباً من أمته، فأرجوا أن أكون يومئذٍ أكثرهم كلهم وارداً، وإن كل رجل منهم يومئذ قائم على حوض ملآن معه عصاً يدعو من عرف من أمته، ولكل أمة سيما يعرفهم بها نبيهم))
أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث النضر بن أنس عن أنس قال: سألت رسول الله أن يشفع لي؟ فقال: ((أنا فاعل. فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض)). الفتح 11/466.
إذا خرج الناس من قبورهم، واذا أذن الله للأجساد الميتة أن تبعث مرة أخرى يوم القيامة، خرج الناس من القبور، مغبرّة رؤوسهم، حافية أقدامهم، عارية أجسادهم فيحشرون في الموقف، والشمس تكون قريبة من رؤوسهم بقدر ميل، فيصيبهم من العطش ما يصيبهم، أحوج ما يكونون الى شربة ماء يروون بها ظمأهم، فيكون هناك الحوض في أرض المحشر.
الحوض مكرمة ومنّة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم، ليواصل المؤمنون به الشرب الحسي كما شربوا في الدنيا الشرب المعنوي من الاهتداء والاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولا يشرب ذلك الشرب الحسي في عرصات القيامة إلا من شرب الشرب المعنوي في الدنيا، وإلا فإنه يذاد عنه ويطرد جزاءً وفاقاً.
الحوض أيها الأحبة: منّة الله على رسوله في الآخرة. هو الذي قال الله فيه: إنا أعطيناك الكوثر والكوثر نهر في الجنة، يصب منه ميزابان يشخبان في حوض النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة ليصب فيه الماء من النهر الذي داخلها. الفتح 11/466.
أيها المسلمون: وعندما يقل نور النبوة ويخبو في الناس ينسى الناس أمثال هذه الأحاديث، ومثل هذه العقائد. فقد حصل السؤال عن الحوض في عهد الصحابة، وأنكره بعضهم لأنهم لم يسمعوا به عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل أبو برزة الأسلمي على عبيد الله بن زياد، فقال له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ فقال أبو برزة: نعم، لا مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثاً، ولا أربعاً، ولا خمساً، فمن كذّب به فلا سقاه الله منه. الفتح 11/467.
وعن أنس قال: دخلت على ابن زياد وهم يذكرون الحوض، فقلت: لقد كانت عجائز بالمدينة كثيراً ما يسألن ربهنّ أن يسقيهنّ من حوض نبيهنّ. الفتح 11/468.
وكان أنس يقول: ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم ينكر الحوض.
هذا في عهد من بقي من الصحابة، فما تظن الناس اليوم تعرف عنه؟ ولو عرفت فماذا أعدّت لتلك الساعة ولتلك اللحظة؟!.
يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث عن صفة هذا الحوض فهل لك أن ترعني سمعك بقلب حاضر وأنت تسمع هذه الأحاديث؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن حوضي أبعد من أيلة (بلدة بالشام) من عدن، لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصُد الناس عنه كما يصُد الرجل إبل الناس عن حوضه)).
((أولُ الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين، الشعث رؤوساً، الدُنُس ثياباً، الذين لاينكحون المنعّمات، ولا تفتح لهم السُدد، الذين يعطُون الحق الذي عليهم، ولا يعطَون الذي لهم)).
((إن في حوضي من الأباريق بعدد نجوم السماء)).
((حوضي كما بين صنعاء والمدينة، فيه الآنية مثل الكواكب)).
((حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منه فلا يظمأ أبداً)).
((الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، ترده طائر أعناقها مثل أعناق الجُزُر، آكلُها أنعمُ منها)).
((الكوثر حافاتاه من ذهب، ومجراه على الدرّ والياقوت)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((بينما أنا أسير في الجنة اذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك. قال: فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أُذفر)).
قالت عائشة: نهر في الجنة ليس أحد يُدخل أصبعه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر قال ابن القيم: وهذا معناه والله أعلم أن خرير ذلك النهر يشبه الخرير الذي يسمعه حين يدخل أصبعيه في أذنيه. شرح السفاريني 2/204.
أيها المسلمون المؤمنون: إنها صفات تسلب العقل، وتثير الايمان، وتجدد العهد مع الله، والمؤمن الصادق إذا سمع بمثل هذه الأحاديث عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، اشتاقت نفسه إليه، وعملت كل ما تستطيع حتى تشرب منه، شربة هنيئة تنالها من يد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الحوض موعدنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم. الحوض مأوى أهل الإيمان قبل دخول الجنة. الحوض يُروى عنده الظمأى. الحوض يَأمن عنده الخائفون، ويَسعد عنده المحزونون. الحوض يقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ، وبقية الصحب الكرام. الحوض يقف عليه سادات الأمة وعلماؤها. الحوض يرتوي منه مصلحو الأمة ودعاتها. الحوض بداية فرح المؤمن في الآخرة، لأنه لا يرده إلاّ وقد نجى من هولٍ عظيم وكربٍ جسيم.
أخي الحبيب: ماذا أعددّت للحوض؟ وماذا أعددّت للقيا الحبيب صلى الله عليه وسلم على الحوض؟ أتعلم أنه يُطردُ أناس عن ذلك الحوض؟ أتعلم أن الحوض حرام الشرب منه لأهل الحدث والفجور؟ أتعلم أن الحوض لا يرده إلا المؤمنون الصادقون؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إني لكم فَرَط على الحوض، فإيّاي، لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقاً)) رواه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إني فرطكم على الحوض، من مرّ بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنّ عليّ أقوام، أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً، لمن بدّل بعدي)).
قال العلماء: كل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه بما لا يرضاه الله ولم يأذن به، فهو من المطرودين عن الحوض، وأشدهم طرداً المبتدعة الذين يطعنون في الصحابة ويسبونهم، فهؤلاء مبدّلون لدين الله، محدثون في دين الله بما لا يرضاه الله، ولم يأذن به، وكذلك الظلمة المسرفون في الظلم والجور، وطمس الحق وإذلال أهله، وكذلك المعلنون بكبائر الذنوب، المجاهرون بها، الذين لايستحون من الناس، ولا يستحون من الله.
قال ابن عبدالبر رحمه الله: (كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء) وقال: (وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق المعلنون بالكبائر).
وقال القرطبي رحمه الله: (إن أشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع) انتهى.
فيا أخي الحبيب، إن الأمر جد إنه لقول فصل وما هو بالهزل من كان على بدعة فلينتبه، ومن كان مجاهراً بكبيرة فلينتبه، ومن كان مصراً على معصية فلينتبه. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يارب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا. رواه البخاري.
رحماك ثم رحماك يارب: فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم.
كيف بك يا عبدالله وفي ذلك الموقف لو علم بك النبي صلى الله عليه وسلم أنك قد عملت بعده أشياء وأشياء.
كيف لو علم أن أشخاصاً بأعيانهم من أمته صار يأكل الربا كما يأكل الطعام. هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم.
كيف لو علم أن من أمته وفي بيوت المصلين منهم يعرض الزنا والخنا والفجور، بل والكفر بالله عز وجل عبر هذه القنوات الفضائية، وهل بعد إدخال الدشوش في البيوت والتساهل في أمره من إحداث، هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم. ألا تخشى يا عبدالله أن تطرد عن الحوض يوم العطش الأكبر بسبب ما عملت يداك.
ثم إن أهل البدع عامتهم مطرودون عن الحوض، لأنه يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك. وقد قال هو صلوات ربي وسلامه عليه: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
فاحذر أخي المسلم من البدع، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ومن شؤم البدع أن الله حجب التوبة عن صاحبها كما ورد بذلك الحديث. وذلك لأن البدعة تحلو في عين صاحبها، ويرى أنه يقوم بعمل جليل، فاحذر أيها المسلم من البدع وأهلها، واهجرهم هجراً جميلا.
ومن بلايا هذا الزمان، أن البعض قد يبتلى بالعمل مع المبتدعة، إما رئيساً أو مرؤوساً أو قريناً في العمل، وهم أنجاس أرجاس، مطرودون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فاحذرهم أخي المسلم، وقل: لكم دينكم ولي دين.
بارك الله لي ولكم. . .
|