أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ وتوبوا إليه، واستغفروه، فالذنوب كثيرةٌ، ورحمة الله قريبٌ من المحسنين، والأعمال سيئة، والتفريط كبير، والله لا يصلح عمل المفسدين.
عبادَ الله، ما أصاب أهل الأرض من شدةٍ، وما وقع فيهم من محنةٍ، إلا ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. يبتلي عباده بالمصائب تارةً، ويعاقبهم على أعمالهم تارةً، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين.
معاشر الإخوة، لا تفسد الأحوال ولا تضطرب الأوضاع إلا بطغيان الشهوات، واختلاط النيات، واختلاف الغِيَر والمداهنات. لا تكون ضعةُ المجتمع، ولا ضياع الأمة، إلا حين يُترك للناس الحبلُ على الغارب، يعيشون كما يشتهون. بالأخلاق يعبثون، وللأعراض ينتهكون، ولحدود الله يتجاوزون من غير وازع، ولا ضابط، وبلا رادع، ولا زاجر.
أيها المسلمون، التقصير في فرائض الله وفشوِّ المنكرات يؤدي إلى سلب نور القلب، وانطفاء جذوة الإيمان، وموت الغيرة على حرمات الله، فيستمرئ الناس المعاصي، ويحيق بالقوم مكر الله.
إن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت من القلوب وحشتها، وأصبحت النفوس تعتادها. يقول بعض الصالحين: إن الخوف كل الخوف من تأنيس القلوب بالمنكرات؛ لأنها إذا توالت مباشرتها ومشاهدتها أنِست بها النفوس، والنفوس إذا أنست شيئاً قلَّ أن تتأثر به، ومن ثمَّ تدعو فلا يستجاب لها.
أيها الإخوة في الله، إن الحصن الحصين، والدرع الواقي، والسياج الحامي من كل ذلك بإذن الله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنه الوثاق الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرمات المسلمين. يحمي أهل الإسلام من نزوات الشياطين، ودعوات المبطلين. بفشوِّه وتأييده تظهر أعلام الشريعة في البلاد، ويكون السلطان لأحكام الإسلام على العباد.
إنه مجاهدة دائبة دائمة، يقوم بها كل مسلم حسب طاقته في بيته وفي سوقه وفي كل مرفق، يقوم من أجل بقاء أعلام الدين ظاهرةً، والمنكرات قصية مطمورة. هو فيصل التفرقة بين المنافقين، والمؤمنين: ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ [التوبة:67].
وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
يقول الغزالي رحمه الله: فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين.
بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور. يقول سفيان رحمه الله: إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق. ويقول الإمام أحمد: إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمن بين الناس معزولاً؛ لأن المنافق يصمتُ عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضوليًا.
إذا تعطلت هذه الشعيرة ودُكَّ هذا الحصن وحُطِّم هذا السياج فعلى معالم الإسلام السلام، وويلٌ يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحق من المبطلين وويلٌ للصالحين من سفه الجاهلين، وتطاول الفاسقين.
ولا يضعف هذا الركن العظيم إلا حين تستولي على القلوب مداهنة الخلق، وتضعف مراقبة الخالق، ويسترسل الناس في الهوى، وينقادون للشهوات.
جاء في حديثٍ حسنٍ عند الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم)).
وفي حديث آخر عنه : ((ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمَّهم الله منه بعقاب)). أخرجه ابن ماجه، وأبو داود واللفظ له، من حديث أبي بكر رضي الله عنه. وإسناده صحيح.
أيها الإخوة، إذا كثر الخبث استحق القوم الهلاك، وبكثرة الخبث تنتقص الأرزاق، وتُنزع البركات، ويعمّ الفساد، وتفشو الأمراض، وتسود الفوضى، وتضطرب الأحوال.
أقبل رسول الله يومًا على أصحابه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهنَّ، وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضتْ في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا..)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
حسن، أخرجه أحمد (5/388)، والترمذي: كتاب الفتن – باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (2169)، وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضاً ابن ماجه: كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (4004) بنحوه. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1762).
صحيح، سنن أبي داود: كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي، حديث (4338)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (4005)، وأخرجه أيضاً أحمد (1/2، 5). وصححه ابن حبان (304)، وذكره الضياء في المختارة (1/145)، وانظر مشكاة المصابيح بتعليق الألباني، رقم (5142).
صحيح، أخرجه ابن ماجه: كتاب الفتن – باب العقوبات، حديث (4019)، والحاكم (4/540) وصححه، وأبو نعيم في الحلية (8/333-334). قال البوصيري في الزوائد: هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختُلف في ابن أبي مالك وأبيه... (4/186). وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (106). |