أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس بتقوى الله عز وجل، فالسعيد من تدبر أمره، وأخذ حذره واستعد ليوم لا تنفع فيه عبرة.
أيها المسلمون، الإسلام دين الفطرة، تصلح له وتصلح به كل الأزمنة وكل الأمكنة. فهو دين العقيدة والشريعة، يعالج شؤون الحياة كلها في سلفية لا تتوقف عند عصرٍ بل تتجدد لتعالج أوضاع كل عصر، وتفتي في كل شأن، وتقضي في كل أمر.
دينٌ يجمع البشاشة في حياء، وحسن الخلق في ابتسامة، دين يعترف بما للبشر من أشواق قلبية، وحظوظ نفسية، وطبائع إنسانية. لقد أقر الدين ما تتطلبه الفطرة من سرور وفرح، ولباس وزينة، محاط بسياج من الأدب الرفيع يبلغ بالمتعة كمالها ونقاءها، وبالسرور غايته بعيداً عن الخنا والحرام، والظلم والعدوان، والغل وإيغال الصدور.
ومتطلبات الفطرة هذه جاءت في دين الإسلام مصاحبة ومرتبطة وملازمة للعناية بإصلاح المعتقد وسلامة الباطن: يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ [المدثر:1-5].
فتطهير العقيدة وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي مقرونة بتطهير الظاهر في بدن الإنسان وثوبه وبقعته ليجمع المسلم بين النظافتين، ويحافظ على الطهارتين.
فحين يجمّل الدين بواطنهم بالهداية إلى لصراط المستقيم، فإنه يجمّل ظواهرهم في أحسن تقويم.
إذا كان ذلك كذلك ـ أيها الإخوة ـ فإن الأخذ بالزينة، والقصد إلى التجمل، والعناية بالمظهر، والحرص على التنظف والتطهر من أصول الإصلاح الدينية والمدنية التي جاء بها ديننا وتميّز بها أتباعه.
إن حب الزينة والتزين من أقوى غرائز البشر الدافعة لهم إلى إظهار سنن الله في الخليقة.
ولقد امتن الله على بني آدم كلهم بلبس الزينة حين قال عز شأنه: يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوٰرِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
يقول أهل العلم: خص سبحانه الريش بالذكر لأنه ليس في أجناس الحيوان كالطير في كثرة أنواع ريشها، وبهجة مناظرها، وتعدد ألوانها فهي جامعة لجميع أنواع المنافع والزينة.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: ولمحبته سبحانه للجمال أنزل على عباده الجمالين اللباس والزينة تجمل ظواهرهم، والتقوى تجمل بواطنهم، وقال في أهل الجنة: وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً % وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً [الدهر:11، 12]. فجمّل وجوهم بالنضرة، وبواطنهم بالسرور، وأبدانهم بالحرير.
وفي خبر نبينا محمد : ((خمس من الفطرة: الاستحداد، والختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر))، إنها الفطرة وسنن المرسلين؛ اتفقت عليه الشرائع ودعت إليها الديانات. وترك ذلك وإهماله مزرٍ بالجسم، وتشبه بالوحوش والسباع، بل تشبه بالكفار المبتعدين عن صحيح الفطرة وهدي المرسلين.
ومن أجل هذا أيها الإخوة فإن الإسلام حريص على أخذ أبنائه بنظافة الحس مع نظافة النفس، وصفاء القلب مع نقاء البدن، وسلامة الصدر مع سلامة الجسد، فالله يحب المطهرين ويحب المتطهرين.
أيها الإخوة، المسلمون هم الذين نشروا النظافة والتنظيف في أصقاع الدنيا حيثما حلّوا وأينما وجدوا مما لم تعرفه الأمم السابقة قبلهم.
إن من يقرأ تاريخ الأمم والملل يعلم أن أكثر البشر يعيشون كما تعيش الوحوش في جزائر البحار، وكهوف الجبال، وأكواخ الأدغال، كلهم أو جلهم يعيشون عراة أو شبه عراة الرجال منهم والنساء.
وما دخل الإسلام بيئة ولا بيتاً إلا وعلّمهم حسن اللباس، وجمال الستر، ونظافة البدن، وطهارة المسلك بالإيجاب تارة وبالاستحباب أخرى نقلهم من الوحشية الفاحشة إلى الحضارة الراقية.
وهذا الحديث لا يخص العصور الغابرة بل إنك وبكل ثقة وأسى لا ترى أمكنة أو أزمنة انطمست فيه آثار النبوة إلا ويتجلى فيها صور الجهل والظلم، والكفر بالخالق، والشرك بالمخلوق، واستحسان القبائح، وفساد العقائد، وانحراف السلوك وما خليت ديارٌ من هدي النبوة إلا وكان أهلها أشبه بالبهائم يتهارشون في الطرقات، ويتعاملون كالعجماوات، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يتورعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى سبيل. وشواهد ذلك في عصركم هذا تجلّ عن الحصر والعدّ.
إن المسلمين نماذج رائعة للطهر والجمال عندما ينفذون تعاليم دينهم في أبدانهم وبيوتهم وطرقهم ومدنهم. ومساكين بعض المنتسبين إلى الإسلام ممن يولّون وجوههم شطر نظم وتقاليد وعادات يعجبون بها وهي لغيرهم، يتشبثون بها وعندهم خير منها، في دينهم والله ما هو أزكى وأتقى وأعلى وأنقى صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138].
أيها الإخوة: وهذا استعراض لبعض مظاهر الطهر والنقاء والجمال والزينة في توجيهات الإسلام، وسلوك المسلمين المتمسكين؛ الطهور شطر الإيمان. والصلاة أهم فرائض الإسلام بعد الشهادتين شرع لها التطهر من الحدث، والتنظف من القذر والنجس. والوضوء على الوضوء نور على نور، مع مطلوبات من الوضوء أخرى للنوم والعبادات الطارئة كالجنازة والخسوف والكسوف وسجود التلاوة والعيدين وغير ذلك.
إنها الصلوات الخمس تنظف الباطن وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وضؤها ينظف الظاهر؛ ((أرأيتم لو كان باب أحدكم على نهر جار يغتسل منه خمس مرات أيبقى من درنه شيء)).
وغسل الجمعة واجب على كل محتلم. ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدّهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)). بهذا جاء الخبر عن رسول الله .
والتطهر المأمور به ليس مقصوراً على المجامع ومجالس الناس ولكنه مطلوب في جميع الأحوال حتى إذا قعد المرء في بيته أو ذهب إلى فراشه، فقد جاء في الخبر مرفوعاً: ((طهروا الأجساد طهركم الله فإنه ليس عبدٌ يبيت طاهراً إلا بات معه في شعاره ملك لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً)). رواه الطبراني بسند جيد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي خبر آخر عند أبي داود: ((ما من مسلم يبيت طاهراً: فيتعار من الليل ـ أي يستيقظ ـ فيسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه)).
وأمة محمد تعرف يوم القيامة بين الأمم بغرتها وتحجيلها من آثار الوضوء. والسواك مطهرة للفم مرضاة للرب، وقص الشارب وحلقه من التجمل، ومن كان له شعر فليكرمه، بالغسل والدهن والترجيل والتطييب. وقد رأى رسول الله رجلا شعثا رأسه قد تفرق شعره فقال: ((أما كان يجد ما يسكّن شعره؟)).
وقص الأظافر، وغسل البراجم وهي مفاصل الأصابع، ونتف شعر الإبط، وحلق العانة، واجتناب الروائح الكريهة من الثوم والكراث والبصل. والإنسان قد يحتمل من غيره ألوانا من الأذى ولكنه لا يصبر على الرائحة المنتنة تنبعث من فم أو عرق أو غيرهما. ويتأكد ذلك في المساجد التي يؤمّها المسلمون للطاعة وذكر الله والصلاة، وكيف تخشع نفس مهتاجة مضطربة تعرّضت للأذى، وتعكر عليها صفو مناجاة الرب؟ وانقطعت من لذة التضرع والتذلل؟؟ ومن المستكره فتح الفم عند التثاؤب لما في ذلك من قبح المنظر وقلة الذوق وإيذاء الجليس وسرور الشيطان.
وفي مقابل ذلك جاء الحرص على الطيب والحث على التطيب، ونبيكم محمد يحب الطيب ويكثر من التطيب.
وغطوا الإناء، وأوكئوا السقاء، واجتنبوا الجشاء، ولا تشرب من فم السقاء ولا تتنفس في الإناء ولا تنفخ فيه.
والتنظف من بقايا الطعام وفضلاته في الأيدي والأفواه والأسنان مندوب إليه. وشرب نبيكم محمد لبناً ثم تمضمض وقال: ((إن له دسماً)).
والتطهر والتنظف يمتد من الأبدان إلى البيوت والطرقات والمساجد ومجامع الناس؛ وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْقَائِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ [الحج:26]. فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلاْصَالِ [النور:36]. ((وإماطة الأذى عن الطريق صدقة)).
ومن الدقة في التعاليم رعاية سبل الوقاية المحكمة في آداب قضاء الحاجة لا يتلوث بها ماء، ولا يتنجس بها طريق أو مستظل، فقد جاء ((النهي عن البول في الماء الدائم)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل)).
أما حسن الملبس وجمال الهندام فمطلوب قدر الاستطاعة وحسب الوجد. عن الأحوص الجشمي قال: رآني النبي وعلي أطمارٌ ـ أي ثياب بالية ـ فقال: ((هل لك من مال؟ قلت: نعم، قال: ومن أي المال؟ قلت: من كل ما أتى الله من الإبل والشاء، قال: فلتر نعمته وكرامته عليك؛ فهو سبحانه يحب ظهور أثر نعمته على عبده)).
وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر؛ فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة؛ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)).
وفي الناس أجلاف يظنون أن قصد الزينة تصنع، فيرد عليهم ابن الجوزي بقوله: وهذا ليس بشيء فإن الله تعالى زيننا لما خلقنا لأن للعين حظاً من النظر، قال: وقد كان رسول الله أنظف الناس وأطيب الناس، وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن يشم منه ريح ليست طيبة. فهو عليه الصلاة والسلام كامل في العلم والعمل فبه يكون الاقتداء وهو الحجة على الخلق.
بل إن بعض الجهال يحسبون فوضى اللباس وإهمال الهيئة والتبذل المستكره ضرباً من العبادة، وربما ارتدوا المرقعات والثياب المهملات وهم على خير منها قادرون ليظهروا زهدهم في الدنيا وحبهم للأخرى، وهذا جهل وخروج عن الجادة. إنه لا يطيق الروائح الكريهة والأقذار المستنكرة إلا ناقص الفطرة وجمال الأدب.
وإنما لبس المرقّع من لبسه من السلف الصالح لاستدامة الانتفاع به؛ يوضح ذلك ويجّليه الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله حيث يقول: وما حُكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه كان يرقّع ثيابه إنما يفعله لاستدامة الانتفاع به، وذلك شعار الصالحين حتى اتخذه المتصوفة شعاراً فجعلته في الجديد، وليس بسنة بل هو بدعة عظيمة، وإنما المقصود من الرقع هو الانتفاع بالثوب.
أيها الإخوة، ومن دقق النظر في طبائع النفوس وأخلاق البشر رأى بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن وطهارة الجسد واللباس وطهارة النفس وكرامتها ارتباطاً وثيقاً وتلازماً بيّناً.
نعم، إن هناك تلازما بين شرع الله اللباس للستر والزينة وبين تقوى الله في النفوس فكلاهما لباس. فالتقوى لباس يستر عورات القلوب ويزيّنها والثياب تستر عورات الجسم وتزيّنها.
من تقوى الله ينبع الحياء الذي ينبت الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه، ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه فلا يكترث أن يتعرى أو يدعو إلى التعري.
ومن أجل هذا أيها الإخوة فإن ستر الجسد ليس مجرد أعراف وتقاليد كما يزعم الماديون الهادمون لأسوار العفة والفضيلة ولكنها فطرة الله التي فطر الخلق عليها وشريعته التي أنزلها وكرّم بني آدم بها.
وبعد أيها الإخوة، فعناية الإسلام بالنظافة والتجمل والصحة والتطهر جزء من عنايته بقوة المسلم. إن المطلوب أجسام تجري في عروقها دماء العافية، وتمتلئ أبدان أصحابها قوة وفتوة، فالأجسام المهزولة لا تطيق حملاً، والأيدي القذرة غير المتوضئة لا تقدم خيراً، ورسالة الإسلام أوسع في أهدافها وأصلب في كيانها من أن تحيا في أمة مريضة موبوءة عاجزة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَـٰبَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
|