أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أبان لكم من معالم الدين والتزموا طاعته وتقواه سيرة النبيين والمرسلين فإن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وإن مما حد الله وأوضحه وأبانه وأظهره ذلك الصيام الذي هو أحد أركان الإسلام بين الله متى ابتداء الصوم وانتهاؤه شهريا ومتى ابتداؤه وانتهاؤه يوميا فقال في الشهر: فمن شهد منكم الشهر فليصمه وفي الحديث: ((إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين))، وقال تعالى في اليوم: فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا تبين الفجر إما بمشاهدته إن كان الإنسان في فضاء وإما بسماع المؤذنين الذين يؤذنون على طلوع الفجر دخل وقت الصيام إلى غروب الشمس لقول النبي للصحابة رضي الله عنهم: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر، وقال: إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم.
أيها الناس: إن المفطرات التي تجتنب في الصيام سبعة أنوع: الأول الجماع وهو أعظم المفطرات وفيه الكفارة المغلظة إذا حصل في نهار رمضان ممن يجب عليه الصيام وكفارته عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، الثاني إنزال المني باختباره بتقبيل أو لمس أو ضم أو استمناء أو غير ذلك فأما إنزال المني بالاحتلام فلا يفطر لأنه من نائم والنائم لا اختيار له، الثالث الأكل والشرب وهو إيصال الطعام والشراب إلى جوفه سواء كان ذلك الطعام والشرب حلالاً أم حراما نافعا أم غير نافع وسواء كان عن طريق الفم أم طريق الأنف لقول النبي : ((بالغ في الاستنشاق يعني في الوضوء إلا أن تكون صائما)) فدل هذا على أن الداخل من الأنف كالداخل من الفم فأما شم الروائح فلا يفطر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف. الرابع ما كان بمعنى الأكل والشرب مثل الإبر المغذية وهي التي يستغنى بها عن الطعام والشراب لأنها بمعناهما فأما غير المغذية وهي التي للتداوي وتنشيط الجسم فإنها لا تفطر سواء أخذت مع العرق أم مع العضلات لأنها ليست بمعنى الأكل والشرب، الخامس من المفطرات إخراج الدم بالحجامة لقول النبي : ((أفطر الحاجم والمحجوم))، فأما أخذ الدم من البدن للفحص عنه فلا يفطر لأنه يسير ولا يؤثر على البدن تأثير الحجامة ولا يفطر بخروج الدم بالرعاف ونحوه لأنه بغير اختياره، ولا يفطر بخروج الدم من قلع السن أو الضرس لأنه غير مقصود لكن لا يبلغ لأن بلغ الدم حرام على الصائم وغيره، ولا يفطر بشق الجرح لإخراج القيح منه ولو خرج منه دم، فأما سحب الدم من الصائم ليحقن في شخص آخر محتاج له فإنه يفطر لأنه كثير يؤثر على البدن كما تؤثر الحجامة وعلى هذا فلا يجوز لمن صومه واجب أن يمكن من سحب الدم منه إلا أن يكون لشخص مضطر لا يمكن صبره إلى الغروب ويرجى انتفاعه بهذا الدم فله أن يمكن من سحب الدم منه لهذا المضطر ويأكل ويشرب ويقضي يوما مكانه، السادس: من المفطرات القيء وهو إخراج ما في معدته من الطعام أو الشراب إذا تعمده فأما إن هاجت معدته وخرج الطعام بدون تعمد منه فلا يفطر لقول النبي : ((من ذرعه القيء أي غلبه فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض)).
وهذه المفطرات الستة لا يفطر بها الصائم إلا إذا فعلها عالما ذاكرا مختارا فلا يفطر إن فعلها جاهلا مثل أن يفعل شيئا من المفطرات يظن أنه لا يفطر أو يظن أن الفجر لم يطلع وهو طالع أو يظن أن الشمس قد غربت وهي لم تغرب فليس عليه في ذلك حرج ولا قضاء لقوله تعالى: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم. وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: ((أفطرنا على عهد النبي في يوم غيم ثم طلعت الشمس ولم تذكر أن النبي أمرهم بالقضاء)) ولو أمرهم لذكرته لأهميته وما كان الله ليضيع على عباده حكما واجبا بدون بيان لكن متى علم أنه في نهار وجب عليه التوقف عن تناول المفطر فإن استمر في تناول المفطر بطل صومه. ولا يفطر إذا فعل شيئا من المفطرات ناسيا لقوله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وقول النبي : ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) لكن إذا ذكر أو ذكر وجب عليه التوقف عن تناول المفطر فإن استمر بطل صومه حتى لو كان الشيء في فمه فبلعه بعد ذكره بطل صومه ومن رأى صائما يأكل أو يشرب ناسيا فليذكره فإن ذلك من التعاون على البر والتقوى. ولا يفطر إذا حصل عليه شيء من المفطرات بغير اختياره فلو طار إلى جوفه غبار أو تسرب إليه ماء عند المضمضة أو الاستنشاق بغير اختياره فصومه صحيح ولا شيء عليه. النوع السابع من المفطرات خروج دم الحيض أو النفاس فمتى خرج ذلك ولو قبل الغروب بلحظة بطل الصوم ولو أحست بحركته قبل الغروب ولم يخرج إلا بعده ولو بزمن قليل فالصوم صحيح لأنه لا يبطل إلا بخروجه.
ويجوز للصائم أن يكتحل بأي كحل شاء وأن يقطر دواء في عينه أو أذنه وأن يداوي جروحه وأن يتطيب بالبخور وغيره لكن لا يستنشق دخان البخور فيدخل إلى جوفه ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف عنه الحر والعطش كالتبرد بالماء وبل الثوب ونحوه فقد روى الإمام مالك عن بعض أصحاب النبي قال: ((لقد رأيت رسول الله يصب الماء على رأسه من العطش أو من الحر يعني وهو صائم)). وبل ابن عمر ثوبه وألقاه على بدنه، ويجوز للصائم أن يتسوك في أول النهار وآخره وهو سنة له كما هو سنة لغيره ويتأكد عند الصلاة والوضوء والقيام من النوم وأول ما يدخل بيته، والسنة أن يفطر على رطب فإن لم يكن فتمر فإن لم يكن فماء فإن لم يكن فعلى أي طعام أو شراب حلال فإن غربت الشمس وهو في مكان ليس عنده شيء نوى الفطر بقلبه ولا يمص أصبعه كما يفعله بعض العوم.
واحفظوا أيها المسلمون صيامكم من اللغو والرفث وقول الزور وفعله فإن من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، وأقيموا الصلاة في أوقاتها مع الجماعة أكثروا من الصلاة والذكر وقراءة القرآن والصدقة وغيرها من الطاعات اجتنبوا ما حرم الله عليكم من الغيبة النميمة والغش والكذب والسب والشتم وإن سابكم أحد فقولوا: إني صائم ابتعدوا عن استماع المعازف وآلات اللهو من الراديو أو غيره فإن الصوم جنة يتقي بها الصائم الآثام وينجو بها من النار فمن تجرأ على المحرمات أو تهاون بالواجبات في صيامه نقص ذلك من أجره.
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. . . |