أيها الناس: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وسن سننا فلا تتركوها، وإن الله تبارك وتعالى قد فرض على عباده الحج فريضة من أكبر وأعظم الفرائض الحج هو تلك الرحلة الفريدة في عالم الأسفار والرحلات ينتقل المسلم فيها بروحه وبدنه وقلبه إلى البلد الأمين لمناجاة رب العالمين.
ما أروعها من رحلة وما أعظمه من منظر يأخذ الألباب فهل شممت عبيراً أزكى من غبار المحرمين؟
وهل رأيت لباساً قط أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوساً أعز وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟ وهل مر بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟ وهل سمعت نظماً أروع وأعذب من تلبية الملبين، وأنين التائبين، وتأوه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟
فأُجيبـوا إجـابة لم تقـع في المسامع
ليس ما تصفـونه و وليـائي بضائـع
تاجروني بطاعتي تربحوا في البضائع
وابذلوا لي نفوسكم إنهـا في ودائعـي
فكان في إيجابه تذكير ليوم الحشر، بمفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذليل، في الوقوف بين يديه، واجتماع المطيع والعاصي، في الرهبة منه والرغبة إليه، مرة في العمر، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، إن الله بين ذلك في كتابه وفي سنة رسوله ووضع الأجر العظيم والكبير لمن فعله مخلصاً لله وحده، ومن تركه تهاوناً وهو قادر فعليه الوعيد الشديد فبادر يا من أنت مقتدر قبل انقطاع العمر والعمل.
عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)) متفق عليه.
وعنه قال: قال رسول الله : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: إن النبي قال - في الحديث الطويل -: ((والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) متفق عليه.
أحبتي في الله وننقل السياق الآن إلى مواكب الحجيج وإقلاع أهل المعاصي عما اجترحوه، وندم المذنبين على ما أسلفوه، فقل من حج إلا وأحدث توبة من ذنب، وإقلاعاً من معصية، ولذلك قال بعض السلف: (من علامة الحجة المبرورة أن يكون صاحبها بعدها خيرا منه قبلها)
وهذا صحيح لأن الندم على الذنوب مانع من الإقدام عليها.
يالجلال الموقف، وياللروعة والعظمة، السماء هناك في مهرجان نوراني يتنزل فيه الروح والملك سبحانك ربي ما أعظمك وأعدلك حين شرعت لنا هذا المنسك العظيم الذي تتجلى فيه روح المساواة والوحدة والسلام والمساواة واضحة جلية فالجميع قد طرحوا الملابس والأزياء وظهروا في زي واحد الغني والفقير والأمير والحقير والطائع والعاصي.
والوحدة ترى معناها في الحج واضحاً جلياً كالشمس ناصعا كالبدر، وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، لا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس أو طبق.
إنها مرفوضة في الإسلام، الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى.
أرى الناس أصنافاً ومن كل بقعة إليك انتهوا من غربة وشتات
تساووا فـلا أنساب فيها تفاوتٌ لديك و لا الأقـدار مختلفات
ولابد للمسلمين أن يحققوا معنى التوحيد والوحدة.
التوحيد حق لله عز وجل، والوحدة حق الجماعة المسلمة إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً.
ومن دروس الحج أنه يذكر الإنسان باليوم الآخر.
فالإنسان منذ أن يخلع ملابسه ويلبس ملابس الإحرام البيضاء فإن ذلك يذكره باليوم الآخر والذي يجرد فيه ملابسه بعد موته ويكفن في قطعة من القماش الأبيض وقبل ذلك سفره عن الأوطان ووداعه الأهل والأبناء والأقارب راحلاً للحج، فينبغي أن يذكره بسفره الأخير إلى الدار الآخرة، على المسلم أن يتذكر بزحمة الطواف والسعي والرمي ذلك الزحام الرهيب يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وأن يتذكر بحرارة الشمس في مكة يوماً تدنوا الشمس فيه على رؤوس الخلائق قدر ميل وأن يتذكر بالتعب والضنك والعرق المتصبب من على جسده وأجساد الناس من حوله، ذلك اليوم الرهيب والموقف المهول يوم يبلغ الناس في العرق مبلغاً عظيماً يختلفون فيه بحسب أعمالهم وإيمانهم.
وعلى المسلم أن يتذكر بوقوفه يوم عرفة وقوفه بين يدي الله عز وجل.
أيها الإخوة المسلمون: لنتذكر جميعاً أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت، وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت، هنا تترآى لنا تلك الروعة حيث ينقل خطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك النغمة الرائعة ومترنمين بتلك العبارات الناصعة "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" يتقدم في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع يتقدم في قولبه الباصر وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبو الحنيفية، ومرسي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوي بالتهليل والتكبير ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان وتطرب الزمان، وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديان، هنا يقترب الرسول من الحجر الأسود ليقبله قبلة ترتسم على جبينه درة مضيئة على مر السنين لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدراراً وتتحدر على خده الشرف المشرق هنا كان عمر بن الخطاب يتابع الموقف بلهفة وتعجب: يا رسول الله لماذا تبكي؟ يكفكف دموعه الطاهرة ويجيب صاحبه الوفي بعبارات هادئة خاشعة باكية قائلاً: ((هنا تسكب العبرات يا عمر)).
أسأل الله تبارك وتعالى أن يصحبني وإياكم ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية وأن يجعلنا من المتقين المهتدين، الذين سلك بهم صراطه المستقيم وهداهم إلى البر العميم والأجر العظيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
|