عباد الله:
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله عز وجل بالإلحاح عليه بالدعاء فإنه من لم يسأله يغضب عليه وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين .
أيها المؤمنون:
ويلهج الأنبياء عليهم السلام ألسناً بالدعاء ويكسر القلوب منهم الرجاء، وتشرئب الأعناق وترتفع الأكف ضارعة إلى خالقها ومولاها، تستمطر رحمته، وتستنزل نصرته، إنه الدعاء باب الذل والخضوع إذا أغلقت الأبواب، ومعقد الأفئدة والأبصار إذا أوصدت الدروب، أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون.
وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع الدعاء منازل عبودية مدارج السالكين فيها الإخبات والإنابة والخوف والمراقبة والإجلال والمحبة والشكر والرضى، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين .
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفـدك حـول البيت وانتبهوا و أنت يا حي يا قيـوم لـم تنـم
إن كـان جـودك لا يرجوه ذو سفه فمـن يجود على العاصين بالكرم
أخي المبارك:
ومع أن الأنبياء عليهم السلام صفوة البشر وخيرة الخلق إلا أنهم كانوا يرجون من الله غفران ذنوبهم ومحو خطيئاتهم.
فها هو آدم وحواء عليهما السلام قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
وكذا نوح أول الرسل عليهم السلام قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين .
أما موسى عليه الصلاة والسلام قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم .
وبين يدي الركوع والإنابة يستغفر داود عليه السلام ربه وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ويحذو الابن حذو أبيه ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب .
أما أكرم الخلق وأحبهم إلى الله، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، ومن دعائه: ((اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير)).
أيها المؤمنون:
وتدلهم الخطوب وتبلغ القلوب الحناجر ويحيط بالأنبياء، عليهم السلام وعيد الكفار وتهديدهم ومكرهم وكيدهم عندها تفتح أبواب السماء ليعرج من خلالها دعاء واستغاثة ممن كذبوا وأوذوا بهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين.
فأما نوح وصالح عليهما السلام فقد دعوا ربهما بدعاء واحد على تباعد ما بينهما من الزمن قال رب انصرني بما كذبون ، فأخذت هؤلاء الصيحة وحل بأولئك الطوفان والغرق.
وللجريمة الخلقية عقوبة ونكال أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فما كان من لوط إلا أن استغاث بخالقه ولجأ إلى مولاه قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين وفي آية قال رب انصرني على القوم المفسدين ويخشى الأنبياء عليهم السلام أن يفتنوا في دينهم على عظم إيمانهم وسمو يقينهم وهذا درس لنا إذ البعض يمني نفسه لو ابتلي أو فتن في دينه أن يثبت ثبات الجبال وما علم أن النبي قال: ((لا تتمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموه فاصبروا )).
فها هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام يدعوهو ومن آمن معه ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم وما طلب النجاة من الله إلا خروجا من البلاء وبعداً عن العقوبة قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين .
وكان يستعيذ بالله من الفتن، فلقد علّمنا أن ندعوا فيما ندعوا به في صلاة الجنازة ((اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده)).
إذ المال فتنة والأزواج والبنون فتنة كذا النساء والدجال والمناصب وغيرها كثير، فتن كقطع الليل المظلم يوصينا في مثلها بالدعاء ((اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن)).
أخي يا من إلى الله بالدعاء أنبت:
ما أجمل أدب الأنبياء في الدعاء وما أزكاه وما أكرمه إن تأملك لأدعية بعضهم يشعرك بالأخوة الإيمانية والخلوص من الأنانية، فإذا ما دعوا نال والديهم وإخوانهم من دعائهم أوفر الحظ والنصيب.
فنوح عليه السلام يقول: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً .
وإبراهيم الخليل عليه السلام يدعو رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبّل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .
وهل أحدٌ أكرم أخاه بمثل ما أكرم موسى أخاه عليهما الصلاة والسلام واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي .
ثم ماذا؟ لقد عبد قومه العجل، فدعا ربه قال: رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين .
أما نبينا العزيز عليه ما يشق علينا الرؤوف الرحيم فقد دعا لأهل بيته وأصحابه بل وأمته جمعاء فمن ذلك سؤاله الله ألا يعذبهم بسنة ٍ بعامة وألايهلكهم بالغرق وقبل ذلك الشفاعة ((فقال له سبحانه: لك سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قلت: رب زدني فحثا لي بيديه مرتين)) وفي رواية: ((ومع كل واحد سبعون ألفاً)).
اللهم فاجعلنا منهم يا حي يا قيوم فإنه لا يتعاظمك شيء وقد دعا لأمته أن يبارك لها في بكورها.. الخ.
ولذا فإن البشرى تزف إليك أخي المؤمن حين تسمع قوله عليه الصلاة والسلام: ((دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وملك عند رأسه يقول: آمين ولك بمثل ذلك)).
وللذرية الصالحة من الدعاء نصيب فكم من نبي سأل الله ذرية مباركة، هنا لك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء .
وهاك دعاء آخر يتعاقب في الذرية جيلاً بعد جيل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا منا سكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
وهنيئا للأنصار رضي الله عنهم فلقد دعا النبي لهم بدعاء كريم فقال: ((اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)).
ومن هنا يخاطب كل أب منا ووالدة ألا يدعوا على أبنائهم إلا بخير مهما وقع منهم من خطأ أو عصيان أو عقوق لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم)) وفي الحديث الآخر: ((ثلاثة تستجاب دعوتهم الوالد والمسافر والمظلوم)).
عباد الله:
ويتواضع الأنبياء عليهم السلام في دعائهم ولا يمنون على الله جهادهم ودعوتهم وابتلاءهم وهم من هم في علو الإيمان وذروة اليقين.
وما دعاء إبراهيم عليه السلام إلا من ذلك رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين إلى أن قال ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
إنه إبراهيم الأمة القانت الحليم الأواه المنيب، يسأل الله أن يلحقه بالصالحين، تأمل معنى ألحقني، فاللحاق هو إدراك القوم بعد مضيهم، وهذا يذكرنا بقول الإمام العلامة الشافعي رحمه الله، إذ يقول تواضعاً :
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهـم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سوياً في البضاعة
وللكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم دعاء كدعاء جده رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين وكذا نبينا عليه السلام يقول: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)).
أخي الحبيب:
وويل للظلمة والمجرمين من دعاء الأولياء والصالحين، فها هم الأنبياء عليهم السلام يتوجهون إلى الجبار المنتقم بهلاكهم وإنزال العذاب بهم.
وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفاراً .
أما موسى عليه السلام فيستفتح بقوله: وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم حتى يروا العذاب الأليم .
|