أما بعد: فإن شهر رمضان قد اقترب أن ينتصف، فهل فينا من قهر نفسه وانتصف؟ وهل فينا من قام فيه بما عرف؟ وهل تشوقت أنفسنا لنيل الشرف؟ أيها المحسن فيما مضى منه دم على طاعتك وإحسانك، وأيها المسيء وبخ نفسك على التفريط ولمها، إذا خسرنا في هذا الشهر متى نربح؟ وإذا لم نسافر فيه نحو الفوائد متى نبرح؟
كان قتادة رحمه الله يقول: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له؛ لما في هذا الشهر المبارك من أسباب المغفرة والرحمة.
فلنستدرك باقي الشهر، فإنه أشرف أوقات الدهر، هذه أيام يحافظ عليها وتصان، هي كالتاج على رأس الزمان، ولنعلم أننا مسؤولون عما نضيعه من أوقات وأحيان، فعن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه)).
نعم إننا مسؤولون عن هذه الأوقات من أعمارنا، في أي مصلحة قضيناها؟ أفي طاعة الله وذكره، وتلاوة كتابه وتعلم دينه، أم قضيناها في المقاهي وأمام التلفزيون وفي لعب الكرة أو في غير ذلك مما لا يعود علينا بكبير فائدة، بل قد يباعدنا عن الله تعالى وعن مرضاته، ويقربنا مما يسخطه والعياذ بالله تعالى؟
فالعجب لنا، نعرف ما في هذا الشهر من الخيرات والبركات، ثم لا تطمئن أنفسنا إلا بتضييع أوقاتنا فيما لا يزيدنا إلا بعداً عن الله تبارك وتعالى، وكأن صحفنا قد ملئت بالحسنات، وضمنا دخول الجنات، إلى متى نرضى بالنزول في منازل الهوان؟ هل مضى من أيامنا يوم صالح سلمنا فيه من الجرائم والقبائح؟ تالله لقد سبق المتقون الرابحون، ونحن راضون بالخسران، أعيننا مطلقة في الحرام، وألسنتنا منبسطة في الآثام، ولأقدامنا على الذنوب إقدام، ونغفل أن الكل مثبت عند الملك الديّان.
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي أنه قال: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
فالرؤوف الرحيم يوصينا بمبادرة خمسة أشياء قبل حصول خمسة أخرى، نغتنم حال حياتنا قبل موتنا، وحال صحتنا قبل مرضنا، وحال فراغنا قبل انشغالنا، وحال شبابنا قبل كبرنا، وحال غنانا قبل فقرنا، نغتنمها في طاعة الله والتقرب إليه قبل أن يحل بنا ما يمنعنا من ذلك فنندم على ما فرّطنا في جنب الله ولا ينفع يومئذ الندم.
عباد الله، إننا لا نعرف قدر وقيمة نعمة الحياة والصحة والفراغ والشباب والغنى إلا بعد زوالها وفقدها، فلنغتنم فرصة وجودها، ولنسخرها في كل ما يوصلنا إلى جنات ربنا عز وجل ويباعدنا عن عذابه. هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهرنا، ويتردد في أسماعنا، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيناه خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا قلوبنا تخشع، ولا عيوننا تدمع، ولا صيامنا يبعد عن الحرام فينفع، ولا قيامنا استقام، فقلوبنا خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا من رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم وزادتهم إيمانا، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار؟! أوليس لنا فيهم اقتداء وأسوة؟! كلما حسنت منا الأقوال ساءت منا الأعمال، سيشهد علينا رمضان، وسيشار لكل واحد منا يوم القيامة: شقي فلان وسعيد فلان، اللهم لا تجعلنا من أهل الشقاء، واجعلنا من أهل السعادة والرضوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
|