وبعد:
فاتقوا الله يا عباد الله ، واعلموا أنكم ملاقوه ، وعما قليل صائرون إليه ، وليكن لكم فيما مر من الأيام حسن الاعتبار، واغتنموا أعماركم بالأعمال الصالحة، فإنها تنقضي سريعة.
واعلموا أن أياما مضت هي من أعظم أوقات الفضائل ، فالسعيد من تنبه لها ، وفطن لفضلها ، فاستغلها واستعمرها بطاعة ربه ، والمسكين المسكين من مرت به ولما يزل قلبه بعد قاسيا، وعن مولاه وربه سبحانه وتعالى بعيدا ونائيا ، وإن من تمام السعادة والاستفادة أن يتفكر الإنسان فيما أقدم عليه من مناسك وأعمال وتدبر ماذا عسى أن يكون من العبر وراءها .
فإنك يا أخي الحاج عندما أحرمت أولا تجردت من المخيط امتثالا لأمر الله وتذكرا لدار عما قليل ستصير إليها، وقبر عما قريب سترحل إليه، فما لباس الإحرام إلا كفن تلبسه وتمشي به، ولعل لبسك إياه ذكرك بأنه لا يبقى معك عند رحيلك من الدنيا إلا عملك الصالح: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281].
ثم إنك إذا وقفت في الميقات لتحرم عنده علمت كيف يدعوك الإسلام إلى امتثال النظام، وكيف يدربك عمليا على ذلك فلا تحرم قبل الميقات ، ولا دونه ، بل من عنده أو بمحاذاته.
ثم لما وصلت إلى مكة واستقبلت بوجهك البيت العتيق تذكرت أياما عظيمة خلت وتاريخا مجيدا مر بالبيت وكيف أن أمما مرت وبادت استقبلت هذا البيت كما استقبلته أنت ، ومضت إلى ربهـا محسنة أو مسيئة ، ولعلنا أن نكون من المحسنين.
ثم نتذكر كيف كان هذا البيت مهد الدعوة الإسلامية الأول، وأن في جنباته مشى الصحب الأطهار وسجد لله وركع سيد الأبرار عليه أفضل الصلوات والسلام، ثم إن خروجك إلى منى رمز إلى تقديسك لأوامر الله وشعائره: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [الحج:32].
فقد تركت العمران وصرت إلى الخلاء رضى للغفار ، وسرت بعد ذلك إلى عرفات ، فوقفت فيها لله أنت وجميع الناس في حرارة الشمس، ولفح الهجير ، متذكرا يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، يكون حال الناس فيه بحسب أعمالهم ، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يصل العرق إلى حقويه، ومنهم من يصل العرق إلى كتفيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، ومنهم من يحشر مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، يظلهم عرش الرحمن بظله.
ويتذكر الإنسان في يوم عرفة ما مر به من العصيان، فيتجرد منه مستغفـرا وتائبا إلى الملك الحنان المنان، مستحضراً نزول ملائكة الرحمن، متمنيا على الله أن يكون ممن يباهي بهم ملائكته ، ويعتق من النيران رقبته .
ثم إذا قام الناس بعد غروب الشمس ونفروا إلى مزدلفة تذكر قول الله تعالى: خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر [القمر:7].
تذكر قيام الناس من قبورهم عند نفخة الصور وانسياقهم إلى المحشر، ثم إلى الجنة أو النار وبئس القرار.
ثم بعد ما يرمي الحاج الحجارة وبعد المبيت بمزدلفة يتذكر العدو الأول للإنسانية جمعاء إبليس قاتله الله، وأعلن الحاج برميه الجمار عداوته وكراهيته له، تذكر وعد الله بتكفير موبقة من الموبقات بكل حصاة يرميها، فكأن لسان حاله يقول: ها أنا ذا يارب أعادي من عاداك وعصاك، ولا أوالي إلا من والاك وألقي عن كاهلي أحمال المعاصي وأثقالها، فتقبل مني.
وعندما ينظر حوله عند النفرة من عرفات ومزدلفة وأثناء رمي الجمار وفي كل تجمع للحجاج عندما ينظر إلى تلك الأعداد الهائلة من الناس ويتفكر في حال الأمة اليوم يبكي قلبه حرقة وألما وحزنا ويرجو الله أن يعيد إلى هذه الأمة عزتها، ثم يتذكر أهمية الوحدة ، وحدة الأمة الإسلامية ولاسيما وحدتها على كتاب الله وسنة رسوله، وأهمية الجماعة في إنجاز أوامر الله وتحكيم شرعه سبحانه وتعالى.
وإذا ما حلق شعره كأن لسان حاله يقول: ها أنا ذا يا رب نبذت ورميت ما تبقى من شعري ابتغاء مرضاتك وطمعا في غفرانك، ولما ذبح أضحيته أو أهدى هديه تذكر رمز الفداء الأول ورمز التضحية إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعلم كيف أن في طاعة أوامر الله النجاة من كل كرب ومصيبة، ثم إذا عاد إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة، وليسعى سعي الحج فإنه يجدد العهد مع ربه وكأني بالحاج حينذاك يناجي ربه فيقول : ها أنا يا رب أعود إلى بيتك ، وأعظمه مرة بعد مرة، وها أنا يا مولاي ويا ربي منيب إليك ، فلا ملجأ ولا ملاذ منك إلا إليك.
وإن العبد إذا خاف من شيء هرب منه أما إذا خاف الله فإنه يهرب إليك.
وفي مشاهدة الناظر إلى منى بعد أن خوت من الناس ورحل عنها من كان بالأمس القريب يعمرها ، ورأى الخيام وقد هدمت بعد ما كانت بالأمس قد نصبت، في مشاهدة الناظر ذلك عبرة وأي عبرة، فهذا حال الدنيا صعود وهبوط ونزول وارتحال وتقلب في الأحوال .
ثم إذا ما جاء طائفا ومودعا البيت سكب العبرات، وكوى جنبيه ألم الفراق، وبكى لله، وتمنى أن تكون له عودة وأوبة إلى غسل النفس من ذنوبها ، وطهارتها من أدرانها .
|