أما بعد:
فإننا لو فتشنا وبحثنا لما وجدنا أعظم حرصاً من شريعتنا على نظافة المسلم معنوياً وحسيا، فهي تأبى كل ألوان القذر والأوساخ حتى ولو كان وسخا كالسب والشتم واللعان، إن شريعتنا لتأبى كل الإباء جميع ألوان التجريح بالهيئات والأشخاص، وتأبى علينا شريعتنا كذلك جميع أصناف التهكم وأنواع السخرية بين الأفراد وجماعات المجتمع المسلم، فلا تخرج إلا عند الحاجة وبمقدار الحاجة كجرح الشهود عند الشهادة، أو جرح الرواة عند الرواية، أو جرح المستشار لمن استشاره فيمن يريد أن يزوجه ابنته، أو يودع عنده ماله، أو يوليه ولاية ونحو هذا، ولا يتكلم إلا بمقدار الحاجة.
وإن مما يؤسف له أن يسمع الفرد منا في بعض قطاعات المجتمع كبعض الشوارع أو بعض الدوائر الرسمية أو بعض أماكن تجمعات الناس أنواعا من السباب والشتم وأصنافا من عبارات القذف والتهكم، والرسول يقول: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي)) رواه الترمذي ومعنى الطعان: الذي يقع في أعراض الناس بالذم والغيبة. واللعان : كثير اللعن، واللعن هو الطرد من رحمة الله. والفاحش : ذو الفحش في كلامة وفعله, والبذي : السفيه الفاحش في منطقه وإن كان كلامه صدقا.
فالمؤمن مرهف الحس يستخدم العبارات المؤدية للمعنى فترى القرآن العظيم يعبر عن الجماع بالملامسة، ونرى العرب تعبر عن قضاء الحاجة بالغائط، والغائط: المكان المنخفض، وغير هذا من الأدب في سبيل تجنب العبارات الجارحة.
عن أبي الغفاري أنه سمع رسول الله يقول: ((ولا يرمي رجلا بالفسق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك )) رواه البخاري، ويقول : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) متفق عليه.
وقد يحدث خلاف بين اثنين فلا ينبغي والحالة هذه أن يلجأ كل واحد منهما إلى استخدام العبارات البذيئة، وإلى السب والشتم فإن ذلك يعقد القضية، ويجعل حل ذلك الخلاف متعسراً، وقد يكون أحدهما مظلوما حقاً، ولكن ذلك لا يسوغ له أو لزميله الشروع في السباب، فالحبيب يقول: ((المتسابان ما قالا فعلى البادي منهما حتى يتعدى المظلوم )) رواه مسلم.
قال الإمام النووي يرحمه الله : معناه إن إثم السباب الواقع بينهما يختص بالبادي منهما كله إلا أن يجاوز الثاني قدر الانتصار، فيؤذي الظالم بأكثر مما قاله.
والصبر – معشر الإخوة – والعفو أفضل قال تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].
ولم يبح لنا ديننا حتى سب العاصي، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: ((أتي النبي برجل قد شرب. قال: اضربوه. قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه فلما انصرف قال له القوم أخزاك الله قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان )) رواه البخاري.
ومعنى أخزاك الله : أي أهانك الله وأذلك، قال ابن علان الصديقي رحمه الله : "وجه عونهم الشيطان بذلك أن الشيطان يريد بتزيينه له المعصية حصول الخزي فإذا دعوا عليه به فكأنهم قد حصلوا مقصود الشيطان فالرسول يقول: (( من قذف مملوكه بالزنى يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال )) متفق عليه .
ومن هذا الحديث العظيم يتبين لنا جرم من يقذف الناس ولو كان المقذوف عبدا ًمملوكا فكيف حال من يعتبر أن من صدق العلاقة -أقصد الصداقة بينه وبين زميله – أن يسبه أو يقذفه ولا يتأثر هو بذلك، فيتهمه بالزنى بأمه أو بأخته أو نحو هذا وهو مسرور يضحك، ويعتبر هذا من حسن الصداقة، وقوة العلاقة ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن أنواع السباب والشتم – معشر الإخوة – اللعن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (( لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا )) رواه مسلم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : (( لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة )) رواه مسلم .
ويقول فيما يرويه أبو داود والترمذي: (( لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بالنار )).
روى ثابت بن الضحاك قال رسول الله : ((من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قتل نفسه على يمين بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر في شيء لا يملكه ))، ((ولعن المؤمن كقتله )) متفق عليه .
ومعنى من حلف على يمين بملة غير الإسلام : كأن قال: والله إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني، فهو كما قال إذا أراد التدين والعزم عليه، فمن فعل هذا يصير كافرا حالا لأن العزم على الكفر كفر.
أما إذا أراد المبالغة في منع نفسه من ذلك ولم يعتقد أبدا الخروج من الملة فتلك معصية يستغفر الله منها .
ومعنى:((لعن المؤمن كقتله)) أي جرم من لعن المؤمن كجرم من قتله .
وقد يلعن ويسب العبد دابته أو سيارته أو بيته أو أي شيء من خصوصياته وحاجياته، وليس هذا جائزا.
فعن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: (( بينما رسول الله في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله فقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة، قال عمران : فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد )) رواه مسلم.
ويجوز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين كما قال تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين [هود:18].
وفـي الحديـث: (( لعن رسول الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه ))وأنه قال: (( لعن الله من غير منار الأرض )) أي حدودها، وقال الله: (( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ... ))، وأنه قال: (( لعن الله من لعن والديه )) وأنه قال: ((اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله ورسوله )). وأنه قال: (( لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ))
فهنا نرى أن الرسول لم يلعن إنسانا بذاته أو بعينه، وإنما لعن من يفعل هذه الأفعال مبالغة منه في الزجر والردع والإبعاد من هذه الأفعال .
نعوذ بالله من حال الملعونين، ونسأله سبحانه وتعالى – وهو البر الرحيم – أن يجنبني وإياكم سبيل الهالكين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|