أما بعد:
فيا أيها المسلمون : تمر علينا هذه الأيام ونحن نفتتح عاماً هجرياً فتذكرنا بحدث من أهم أحداث السيرة سيرة رسول الله وأصحابـه التي ينبغـي أن نقف على وقائعها في كل وقت وأن نقتدي من خلالهـا برسولنـا في إيمانه وصبره وفي جهاده وأخلاقه وفي ثباته وتضحيته وفي صفاته كلها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [الأحزاب:21].
أيها الأخوة في الله:
لقد مكث رسول الله بعد بعثته بمكة ثلاثة عشر عاما يوجه الناس إلى عبادة الله لينقلهم من ظلمات الشرك والجاهلية والخرافة والدجل إلى نور الإيمان وسعادة الدنيا والآخرة ، ولكن المشركين في مكة وقفوا في وجه هذه الدعوة المباركة وما تركوا من وسيلة للقضاء عليها إلا واتبعوها ، من سخرية وغمز وإيذاء واضطهاد له ولأصحابه رضوان الله عليهم.
ولكن هذه الطائفة المؤمنة صبرت وضحت وثبتت على هذا الدين حينما اقتنعوا بأن الجنة جزاء الصابرين وعندما آمنوا إيمانا خالطت بشاشته قلوبهم .
واشتد أذى المشركين، والرسول مستمر في البحث عن كل وسيلة مشروعة لينصر بها هذا الدين وينشره في الأرض، وكان ينتهز فرصة الحج ليعرض الإسلام على القبائل ويسألها النصرة والمعاونة، وفي أحد المواسم أراد الله عز وجل لنبيه أن يقابل نفراً من الخزرج من المدينة فاستمعوا إليه وآمنوا به، وفي العام القادم بايعته مجموعة أخرى منهم على نصرته وحمايته، وبذلك تكونت للإسلام قاعدة في المدينة .
وجـاء الإذن والأمر من الله للمؤمنيـن بالهجرة إلى المدينة، فصار المسلمون يخرجون تباعـاً من مكة ويلتحقون بإخوانهم الأنصار في المدينة .
وأحست قريش بخطر هذه الهجرة وخافوا أن يخرج رسول الله فاجتمعوا وتشاوروا واتفقوا على قتله: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [الأنفال:30].
ونجى الله رسولـه حيث خـرج هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنـه إلى غـار ثور بأسفل مكة، وبقيا به ثلاث ليال تعمية على المشركين وعمـلاً بالأسبـاب ، والعمل لا ينافي التوكل على الله عز وجل .
وانطلق المشركون في البحث عنه ووصلوا بالقرب من الغار ويسمع أبـو بكر رضي الله عنه وقع أقدامهم فيضطرب خوفاً على رسول الله لا خوفـاً على نفسـه ويقول : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميـه لرآنـا ، لكن الرسـول يبقى ثابتاً متصلاً بربه عز وجل واثقـاً بنصره ومعيتـه ويقول عز وجل : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
ووصل الرسول إلى المدينة واستقبلته بشوق وفرح ، وهناك اجتمع المهاجرون والأنصار وتكون بهم المجتمع الإسلامي الأول الذي رفع راية الإسلام فيما بعد وأخضع تحتها ملوك الفرس والروم.
أيها المسلمون:
لقد اتضحت في هذه الهجرة معالم الإيمان الصادق حينما يثبت في النفوس ، فلقد ضحى المهاجرون رضوان الله عليهم بأموالهم وتجارتهم ومساكنهم في مكة وتركوها في سبيل أن يستعلي إيمانهم وأن يتمكنوا من تطبيق منهج ربهم عز وجل كما صبروا من قبل على الإيذاء والاضطهاد والسخرية في مكة في سبيل أن يثبتوا على الحق الذي أمنوا به واقتنعوا به: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله [البقرة:207].
أما الأنصار في المدينة فقد قدموا أكبر المثل في الإيثار والأخوة والمحبة في الله عز وجل، فقد استقبلوا إخوانهم المهاجرين وآووهم دون سابق معرفة سوى الاجتماع على فكرة الإيمان ، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم، وكان الواحد منهم يأخذ أخاه من المهاجرين فيعرض عليه أن يقتسم معه ماله ومسكنه وزاده وتجارته، والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
فلنتق الله يا عباد الله لنستفد من هذه الحادثة العظيمة والقدوة في الثبات على دين الله مهما كانت الإغراءات والعقبات، والتضحية من أجله والعمل لإعلاء رايته والتمكين له في الأرض، وفي الشعور بالأخوة الإيمانية لكل من يحمل عقيدة الإسلام ومنهج الإسلام ، ومد يد المساعدة بكل ألوانها إلى إخواننا الذين يلاقون عنت الكافرين وإيذاءهم ورغبتهم في القضاء على دين الله في الأرض .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم . . |