أما بعد :
فإن غايات وأهداف السفر المحمود في الإسلام متنوعة كالتفكر في آيات الله ومخلوقاته والاستدلال بها على بعثه لخليقته يقول تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير [العنكبوت:20]. ويكون السفر محمودا إذا كان للاعتبار في حال السابقين ممن استخلفه الله على هذه الأرض ولم يحسن صنعا، فيسير الإنسان في الأرض ليرى ويتفكر في أحوالهم، فيتجنب حال المسيء ويقتدي سلوك المحسن قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة المكذبين [سورة آل عمران:137]. ويقول سبحانه: قل سيروا في الأرض فانظرا كيف كان عقبة المجرمين [النمل:69].
ويتنقل الإنسان في جنبات الأرض ابتغاء لرزق الله وجهادا في سبيله: علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله [المزمل:20]. وقال سبحانه: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [الملك:15].
ويسافر المرء طلبا للصحة اذ يقول الرسول فيما يرويه الإمام أحمد في مسنده: (( سافروا تصحوا، واغزوا تستغنوا )).
فهذا الحديث وإن كانت فيه دلالة على أن من أسباب الصحة السفر إلا أنه يوضح الغرض الرئيسي الذي يجب أن يكون من أجله السفر ألا وهو الجهاد في سبيل الله.
ويسافر المسلم ناشرا لدعوة ربه ورسالة نبيه فهل سفره عليه الصلاة والسلام إلى الطائف وغيرها من الأمصار إلا من أجل ذلك ويسافر المسلم كذلك لطلب العلم الشريف.
وسيرة سلفنا الصالح مليئة بأخبار هذه الرحلات العلمية فقد كان الرجل يقطع الفيافي والقفار من أجل الحديث الواحد والخبر من الأخبار، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى أعاده الله إلى حظيرة الإسلام.
وبالجملة فأي غرض شريف يطلبه الشرع الحنيف لا يتحصل إلا بالسفر والارتحال، فالسفر إليه مباح، وقد يكون واجبا كالحج مثلا مع الاستطاعة، فهو ركن من أركان الدين لا يتحصل للمسلم البعيد عن مكة إلا بالسفر إليها وكزيارة الأقارب والأرحام، فالسفر إليهم مشروع مندوب.
ويذم السفر إذا كانت الغاية منه اقتراف الحرام كالذين يسافرون من أجل الزنا والخمر والقمار والعياذ بالله، فهؤلاء كغيرهم ممن خرج إلى محرم لا يصح لهم استخدام رخص السفر وهي المسح لمدة ثلاثة أيام بلياليهن والفطر والجمع والقصر كما أنه لا يجوز للمسلم أن يسافر إلى مكان يغلب على ظنه أنه يقترف فيه محرما.
وقد يسافر الإنسان لتحصيل نفع ولكنه يضيع نفعا أكبر وواجبا أعظم كالمسافر لزيارة أقاربه وأرحامه ووالداه محتاجان إليه فهذا فعل واجبا وترك أمرا أوجب.
ومن الناس من يسافر ولكن نفقته في سفره من مال حرام، فهو يرتشي أو يتسول ويأكل أموال الناس بالباطل ليأخذ أسرته في عطلة من العطل ويسافر بها مستمتعا بمال حرام والعياذ بالله أو تجده يستوفي أجرة في عمله ووظيفته كاملا ويسرق أياما يتغيب فيها ويضيفها إلى إجازته.
وها هي العطلة أذنت بالقدوم وأوشكت أن تأتى، فما عسى المسلم أن يفعل ليستفيد منها؟ وما عساه إن سافر أن يفعل في سفره أيكون سفره مذموما أم محمودا؟
هل يسافر إلى بلاد تستباح فيها حرمات الله وتؤتى فيها الكبائر أم يشد رحاله إلى مسجد الحبيب ويروي ظمأ قلبه من فيض إيمان طيبة الطيبة؟.
هل يسافر إلى ربوع كافرة أو يسير في بلاده شمالا وجنوبا مبتغيا هدوء النفس وراحة البال أو قريبا يزوره ويتفقده؟.
هل يسمح والد لولده أن يسافر منفردا أو مع زمرة من رفقاء السوء إلى بلاد يعلم أنه يسافر إليها لفعل الكبائر؟
هل يسمح أب لابنته أن تسافر مع غير ذي محرم بحجة الاستمتاع بالإجازة؟
أيسافر أب بمفرده ويترك أهله أو يهيئ لهم برنامجا في إجازتهم يروح به عليهم من غير معصية الله ويزيد حصيلتهم العلمية والثقافية، ويقضي أياما معهم ليتعرف بصورة أكبر على شخصياتهم، فيصلح ما فسد ويبني ما صلح، ويعلمهم أن الإجازة إنما هي للبناء ولم تكن بحال من الأحوال ولا في يوم من الأيام للهدم.
|