أما بعد:
فرمضان هو شهر القرآن أنزل الله فيه القرآن الكريم في ليلة القدر منه، أنزله سبحانه جملة واحدة مكتوبًا إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك على رسول الله منجماً أي مفرقًا حسب الحوادث والوقائع كما ثبت ذلك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وإنزال القرآن الكريم جملة واحدة مكتوبًا إلى بيت العزة في السماء الدنيا لا ينافي أن الرب سبحانه تكلم به كما أنه مكتوب في اللوح المحفوظ وذلك لا ينافي أنه سبحانه تكلم به، وكما أنه سبحانه كلم موسى وكلم سيدنا محمدًا وكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ لا ينافي هذا ذاك فقد تكلم الرب سبحانه بهذا القرآن العظيم، جاء ذلك في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها سلسلة على صفوان)). وفي الحديث الآخر: ((إذا أراد الله أن يقضي بالأمر تكلم بالوحي فأخذت السماوات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفًا من الله تعالى فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدًا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام فيكلمه الله من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة، فما يمر على سماء إلا سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ قال: الحق وهو العلي الكبير. حتى ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمر الله عز وجل)).
فهذا القرآن الكريم كلام ربنا سبحانه تكلم به وسمعه جبريل ثم نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وقد وصف الله تعالى كتابه بأسماء وأوصاف فوصفه بأنه عظيم وكريم ومتين وقرآن وكتاب وفرقان وذكر وغير ذلك من الأسماء والأوصاف، ووصفه في بدء الوحي بأنه قول ثقيل فقال في سورة المزمل: إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً [المزمل:5]. قال الحسن وقتادة: أي العمل به ثقيل، وقد كان إذا أوحي إليه القرآن يشتد عليه ويثقل عليه، ويصيبه من الوحي كرب شديد وعناء شديد ويتغير وجهه وتصيبه الرحضاء، روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل رسول الله : كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ فقال : ((أحيانًا يأتي مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول)).
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((لقد رأيت رسول الله يأتيه الوحي ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا وكان رسول الله إذا أوحي إليه وهو على راحلته على ناقته أطت على الأرض وبركت فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه )).
كل هذا لعظم شأن هذا القول الكريم الذي يتنزل على سيد الخلق فهذا قول كريم وقرآن عظيم وقرآن متين أليس هو كلام ربنا سبحانه وتعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله [الحشر:21]. كان رسول الله كل عام في شهر رمضان يأتيه جبريل فيدارسه القرآن فيعرض النبي على جبريل ما أنزل عليه من القرآن الكريم وكان أجود من الريح المرسلة، جواد كريم وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان إذا قرأ هذا القرآن رتله وفسره حرفًا حرفًا، وتغنى به وترنم به فما سمع أجمل ولا أحسن من صوت رسول الله إذا قرأ القرآن حتى إن ربه سبحانه ليستمع له إذا قرأ القرآن كما أخبر بذلك في الحديث الصحيح قال : ((ما أذن الله لشيء - أي ما استمع الله لشيء - ما أذن لنبي يقرأ القرآن يتغنى به)) يعني به نفسه .
وكان من عادته وسنته أنه يختم القرآن كل سبع ليال مرة واحدة ونهى عبد الله بن عمرو بن العاص أن يختمه في أقل من سبعوجعل أطول مدة لختم القرآن الكريم شهرًا ولكن المفروض من المسلم أن يقرأ كل يوم ما يتيسر له من القرآن إن استطاع أن يقرأ كما كان يقرأ النبي فهو الأفضل وإلا فكما علم النبي عبد الله بن عمرو بن العاص بختمه كل شهر مرة، فإن لم يستطع فالمفروض منه أن يقرأ كل يوم ما تيسر منه كما أمر الرب سبحانه فقال: فاقرأوا ما تيسر من القرآن [المزمل:20]. و((من قرأ في ليلة الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه)) ففيهما الكفاية له كما أخبر بذلك الصادق المصدوق .
أيها المسلمون: هذا القرآن الكريم كلام ربنا عز وجل، هو بين ظهرانينا اليوم غض كما أنزل على سيدنا محمد ، هذا القرآن هو المعجزة الكبرى لمحمد فقد أوتي النبي من المعجزات الكونية كانشقاق القمر وتكليم الشجر والحجر له ولكن تلك المعجزات مضت في وقتها وساعتها لم يبق لنا منها إلا الخبر الصادق الذي نصدقه ونؤمن به، أما المعجزة الكبرى لسيدنا محمد وهو هذا القرآن العظيم فهو باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هو بيننا اليوم نراه ونسمعه ونقرأه فمن أقبل على هذه المعجزة بحضور قلب وفهم تكشفت له أسرارها وانهمرت عليه بركاتها، ولكن المصيبة كل المصيبة إذا اتخذنا هذا القرآن مهجورًا.
أيها المسلمون اعلموا أن هذا القرآن الكريم يدور كله بجميع موضوعاته وآياته الكريمة حول ثلاثة معانٍ وثلاثة مقاصد؛ أولها أسماء الله وصفاته، وثانيها الوعد، وثالثها الوعيد.
فبأسماء الله وصفاته عرف الله سبحانه نفسه لعباده ليعرفوه فيعبدوه فمن عبده وقام بواجب العبودية له وصرف العبادة نحوه وحده سبحانه فالوعد له كما أخبر في القرآن الكريم، وأما من استكبر عن عبادته وكفر بالله العظيم فالوعيد الشديد له كما جاء في القرآن الكريم، وقد جمع الله هذه المقاصد كلها في أول سورة من كتابه الكريم في سورة الفاتحة، ففيها من أسماء الله وصفاته: الله والرحمن والرحيم، وهذه أعظم صفات الرب سبحانه، إليها مرجع الأسماء الحسنى والصفات العلى وعليها مدارها، ثم ذكر الرب سبحانه في سورة الفاتحة أنك أيها العبد إذا عرفت ربك وجب عليه أن تعبده وتستعين به وحده لا شريك له: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:4]. ثم ذكر الوعد في سورة الفاتحة فمن عبد الله سبحانه وسلك طريقه المستقيم فهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وعلمنا الرب أن نطلب منه الهداية إلى ذلك الطريق المستقيم ثم ذكر الوعيد بالتحذير من طريق المغضوب عليهم والضالين، فجمع الله مقاصد القرآن كلها في سورة الفاتحة ولذلك كانت هذه السورة عنوانًا وفاتحة لهذا القرآن العظيم.
ثم جمع الله هذه المقاصد والمعاني في أول آية من كتابه في صدر سورة الفاتحة في: بسم الله الرحمن الرحيم . فمن حقق معنى هذه الآية في حياته فصار كل شأن من شئونه وكل حركة من حركاته بسم الله ولله فقد حقق معنى العبودية وقام بواجب العبادة، وهذا هو ما جاءت كل مقاصد القرآن من أجل تحقيقه، جمعه الله ولخصه في آية واحدة في بسم الله الرحمن الرحيم . ثم أودع الله سر ذلك كله في اسمه الأعظم وهو "الله" أودع الله سر كل تلك المقاصد والمعاني في اسمه الأعظم "الله" فالله معناه المألوه أي المعبود تقول العرب: تألهت له إذا عبدته.
ومعنى هذا الاسم الأعظم أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المالك فهو المعبود بحق دون سواه وهذا هو عين معنى لا إله إلا الله، لخص وأودع سره في اسمه الأعظم "الله" فإذا عرفت أن الله هو المعبود بحق دون سواه أي الذي يجب أن تعبده دون غيره إذا عرفت ذلك فعبدته سبحانه وحققت معنى العبودية في نفسك أيها العبد فقد حققت كل ما شرحه لك القرآن الكريم.
فتدبروا القرآن أيها المسلمون ولا (تجزم) الأقفال في قلوبكم لا (تجزم) الأقفال من هموم الدنيا ومشاغلها لا (تجزم) الأقفال من الشهوات والمعاصي على القلوب فلا تعي حينئذ كلام ربها ولا تفهم هذا القرآن العظيم: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد:24].
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا وجلاء همومنا وأحزاننا اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكرنا منه ما نسينا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا أرحم الراحمين.
|