أما بعد: فإن من أجل الأعمال وأفضل القربات زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه, ثم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره والسلام على صاحبيه أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما وأرضاهما أما زيارة مسجده والصلاة فيه فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فبمائة ألف صلاة)), وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال-وفي رواية لا تعمل المطي- إلا لثلاثة مساجد, مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)), فدل هذان الحديثان الصحيحان على أفضلية زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه وشد الرحل إليه والسفر إليه لمن كان بعيدا عنه.
أما زيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم فالأصل فيها أنها داخلة في عموم الأدلة الصحيحة التي دلت على مشروعية زيارة القبور كقوله صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور آلا فزوروها فإنها تذكر الآخرة))، وفعله أيضا صلى الله عليه وسلم دل على ذلك فقد كان يزور قبور البقيع ويسلم على أهلها ويزور شهداء أحد ويسلم عليهم وزار قبر أمه صلى الله عليه وسلم, فزيارة القبور مطلقا مشروعة والحكمة فيها تذكر الموت وتذكر الآخرة والاعتبار بذلك, أما زيارة قبور المسلمين المؤمنين فإضافة إلى الحكمة المذكورة, فهناك حكمة أخرى خاصة بها وهي السلام عليهم والدعاء لهم والاستغفار لهم كما كان يفعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور المسلمين: ((السلام عليكم أهل الديار من المسلمين, يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)) رواه مسلم في صحيحه.
ولا شك وريب في أن الأصل أن قبر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم هو أولى قبور المؤمنين بالزيارة والسلام ولذلك فمن زار قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فليحرص على التأدب بآداب الزيارة الشرعية بأن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدب وصمت خفيض لا يرفع صوته ولا يحدث جلبة ولا يزاحم الناس فإن الله تعالى يقول: إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [الحجرات:3]. ثم يسلم على صاحبي رسول الله ووزيريه صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر الصديق وعمر الفاروق رضى الله عنهما وأرضاهما, كل ذلك بعبارة موجزة بلا تطويل ولا تمطيط ولا مبالغة , ثم يتوجه إلى القبلة فيستقبلها فيدعو الله لنفسه ولغيره بما شاء وليحذر حينئذ من دعاء غير الله أو الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم أو عرض الحوائج إليه أو طلب الحوائج منه فإنها كما يفعله المبتدعة ومن تبعهم من الجهال, فإن هذا من أقبح ما يمكن أن يرتكب من سوء الأدب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الدعاء لا يجوز إلا لله ولأنه لا يستغاث إلا بالله ولا تعرض الحوائج إلا على الله ولا تطلب إلا من الله كما علمنا بنفسه صلى الله عليه وسلم وكان مشفقا أشد الشفقة من أن يقع أحد من أمته في ذلك ولهذا دعا ربه صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد)) ومقصوده صلى الله عليه وسلم هو ما يمكن أن يرتكبه الجهال عند قبره من دعائه والاستغاثة به وعرض الحوائج عليه أو طلب الحوائج منه فإن هذا من الشرك المحبط للعمل الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير وكان يغضب أشد الغضب إذا وقع أحد من أصحابه في ذلك ولو كان جاهلا بحكمه.
ثم اعلم يا محب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قد خص خليله ونبيه ومصطفاه بخصوصية في قبره ليست لأحد غيره وهي أنك إذا سلمت عليه صلى الله عليه وسلم من أي مكان كان قريب أو بعيد بلغ سلامك فيرد الله عليه روحه فيرد عليك السلام وما هذا إلا لعلو شأنه صلى الله عليه وسلم وعظم مكانته وكون قبره ليس كبقية القبور ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)). وفي الحديث الصحيح أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام)).
فإذن لا يحتاج كل مسلم لكي يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يتعنى المجيء إلى قبره بل يسلم عليه عند دخول مسجده صلى الله عليه وسلم فيقول: باسم الله والصلاة على رسول الله. فيبلغ سلامه هذا النبي صلى الله عليه وسلم فيرد الله على نبيه روحه فيرد عليه السلام, يكفيه لك فلا يحتاج إلى المجيء إلى قبره بل كل من قال ذلك في أي مسجد من مساجد المسلمين شرقا وغربا فإنه تحصل له هذه المنقبة العظيمة, بل من سلم عليه صلى الله عليه وسلم في أي مكان في المساجد وفي غير المساجد قريب أو بعيد فإنه يكون قد حصل على هذه المنقبة العظيمة منقبة السلام عليه والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما أنه لو جاء إلى قبره صلى الله عليه وسلم ولذلك لما رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا يكثر التردد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)). روى هذا الحديث عن علي رضي الله عنه حفيده علي زين العابدين عن أبيه الحسين عن علي رضي الله عنهم أجمعين وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسى في كتابه المختارة الذي هو من أصح كتب الحديث .
و ذكر القاضي عياض المالكي رحمه الله عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال لرجل: إذا دخلت فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني)).
معني هذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخولك مسجده يبلغه سلامك , هذا هو معنى قول السبط رضي الله عنه ولكن إذا جاء أحد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه وعلى صاحبيه فلا بأس بذلك وخاصة إذا كان من الغرباء أهل الآفاق فقد روي ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يفعل ذلك إذا عزم على السفر أو قدم من السفر. أما بقية الصحابة فمن فقههم وهم أفقه الأمة وأحرصها على الخير وعلى الصدق إليه فإنهم لما علموا تلك الخصوصية النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره وأن من سلم عليه من بعد هو كمن سلم عليه من قرب فإنهم اكتفوا بالسلام عليه عند دخول مسجده صلى الله عليه وسلم والسلام عليه من كل مكان ولم يكونوا يحرصون على المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم.
أما من أكثر المجيء إلى قبر المصطفي صلى الله عليه وسلم وأكثر الترداد عليه كل يوم أو كل أسبوع في أوقات مخصوصة فهذا دخل في النهي الذي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تتخذوا قبري عيدا)) أي لا تعتادوا المجيء إلى قبري في أوقات مخصوصة. ولا خير في ارتكاب ما نهى عنه النبي وزجر صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|