أما بعد:
أيها المؤمنون:
فإن الله تبارك وتعالى ينظر إلى العباد من خلال قلوبهم، فإذا كان المرء نقيا من الغش والضغينة، برئيا من العوج والغل، أقبل عليه برحمته، وضاعف نصيبه من بركته، وكان إليه بكل خير أسرع.
أما إذا كان محصورا في مطامعه، ضائقا بخير الله عند خلقه، فهيهات أن يصح له عمل أو ينجح له أمل أو يستقيم له خلق.
المسلم حقا، أيها المسلمون: إنسان تمتد مشاعر حبه فتغمر ما حوله، وتفيض على الآخرين سلاما وأمنا، والجماعة المسلمة حقا هي التي تقوم على عواطف الحب المشترك، والود الشائع والتعاون المتبادل فهي كما وصفها الله تعالى بقوله عن المؤمنين الأولين: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم .
أما إذا كان المسلم يعيش في خصومة مع آخرين ويملأ قبله غلا وحقدا عليهم، ويوسع صدره بالأحقاد على الآخرين فإن ذلك يشل إيمانه، ويسقط مروءته، ويوجب عليه اللعنة.
وربما عجز الشيطان أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم، ولكنه وهو الحريص على إغواء الإنسان وإيراده المهالك، لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، حتى يجهل حقوقه أشد مما يجهلها الوثني المُخرّف، وهو يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت هذه النار استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم قال رسول الله : ((إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم )).
وهذا التحريش بين المصلين فهي إفساد لذات بينهم وهذا له خطره الشديد على دينهم. قال : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)). وذلك لأن الشر إذا تمكن في النفوس تنافر ودها، وارتد الناس إلى حال من القسوة والعناد، يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ولذلك أيها المسلمون ينبغي التقيظ لبوادر الجفاء كي نلاحقها بالعلاج قبل أن تستفحل، وتتحول إلى عداوة فاجرة، وإن كان في الحياة ما قد يدفع الإنسان إلى شي من النزاع المعتاد نظرا لتشابك العلاقات والمصالح، فإن الإسلام لا يجيز للمسلم أن يسترسل في العداوة أو المقاطعة أو الإساءة فقد قال : ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يجر أخاه فوق ثلاث . .)) ففي هذا التوقيت بثلاثٍ فرصةٌ لتهدأ الحدة وينطفئ الغضب، ويراجع كل واحد من المتخاصمين نفسه، ويعيد حساباته، ويفيء إلى رشده، ثم يكون لزاما عليه أن يواصل إخوانه وأن يعود إلى سابق سيرته الحسنة معهم. وإن كان في خصومته لهم ظالما لهم عاديا عليهم فينبغي أن يقلع عن غيه وأن يصلح سيرته، وأن يسترضي أخاه فقد قال رسول الله : ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
أما إن كان الحق له، أو كان مظلوما من أخيه، فإن الإسلام يرغبه في أن يتسامح معه وأن يلين له المعاملة وأن يمسح أخطاء الأمس بقبول المعذرة عندما يجيء إليه أخوه معتذرا عما بدر منه ومستغفرا، فمن اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس، وبهذا الإرشاد للطرفين جميعا يحارب الإسلام الأحقاد، ويرتقي بالمجتمع المؤمن إلى حد مستوى رفيع من الاخوة المتبادلة والمعاملة العادلة، فإنه من دلائل الصغار وخسة الطبع أن يرسب الغل في أعماق النفس، ثم يدفع صاحبه إلى إيذاء الآخرين والإفساد فيما بينهم بشتى ألوان الإفساد، فقد روى ابن عباس أن رسول الله قال: ((ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: إن شراركم الذي ينزل وحده ويجلد عبده ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا بلا. قال: من يبغض الناس ويبغضونه، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا بلى، قال: الذين لا يقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبا، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا بلى، قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره)).
فهذه أطوار للحقد عندما تتضاعف علته وتفتضح سوأته، ولا عجب فمن قديم أحس الناس حتى في جاهليتهم: أن الحقد صفة الطبقات الدنيا من الخلق وأن ذوي المروءات يتنزهون عنها، حتى قال الشاعر الجاهل:
لا يحمل الحقد من تعلوا به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب
وسلامة الصدر ونظافة النفس بعد ذلك، ثمرة من ثمرات الإيمان، الصادق الذي يقود صاحبه إلى الجنة، فعن أنس بن مالك قال: كنا جلوسا عند النبي فقال: ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة . . فلما قام تبعه عبد الله بن عمرو، لينظر عبادته ،فلم يجده كثير نافلة ،فسأله عن سر شهادة الرسول له فقال: ليس مني إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ،ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه)).
لذلك أيها المسلمون : حرم الله تعالى الحسد: (( إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب )). وحرم الغل والحقد، وحرم الغيبة والنميمة، وحرم البذاءة والجفاء وأمر بالإيثار والتعاون، وحث على المحبة وتقديم الخير وإشاعته في المجتمع ليكون ذلك شفاء للصدور: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون . |