أما بعد:
فإن المسلمين في نظر الإسلام بنيان واحد، لبناته أبناء هذه الأمة، وكل لبنة في هذا البنيان تكون دعما لأخواتها تشد البناء وتقيمه، بمقدار ما تكون قوية متماسكة، مرتبطة ارتباطا وثيقا وبثبات الإسلام كيان واحد تمده بالحياة روح واحدة هي روح الإيمان التي لا تعرف لونا أو أرضا أو لسانا، ولقد كانت نظرة الإسلام العلمية في هذا الجانب نظرة واقعية، فعالج في أبناء هذه الأمة أسباب الضعف والتفكك، ودعاها إلى الأخذ بوسائل القوة، وجاءت تشريعاته من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات تؤكد هذا المعنى في الأمة وتجمعها على كلمة سواء، وكان أهم ما عني : حق الجوار ورعاية حرماته والتعاون معه قال الله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام .
والقرآن الكريم يفرض على المسلمين الإحسان إلى الجار قريبا كان أو بعيدا، وقد سلكه في سلك واحد مع عبادة الله وبر الوالدين والأقربين: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب الجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم .
فمن حق الجار على جاره أن يكون له في الشدائد عونا، وفي الرخاء أخاً يَأْسى لما يؤذيه، ويفرح لما يسره ويرضيه، ويأخذ بيده إذا أظلمت في وجهه الحياة، ويرشده إذا ضل أو أخطأ الطريق، ويهيئه إذا أصابه خير، ويبصره إذا ظلم، ويدفع عنه الأذى، فعن معاوية بن حيدة قال : قلت يا رسول الله : ما حقه ؟ قال: ((إن مرض عدته، وإن مات شيعته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقثار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)).
وقد بالغ الإسلام في تحذير أولئك الذين يرعون حق الجار حين أعلن أن المسلم الذي لا يهتم بشأن جاره ولا يحسن بإحسان، قد جافى خلقه الإيمان: ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)).
والإحسان إلى الجار برهان قوي على الإيمان بالله ودليل عملي على صدقه، قال : ((اتق الله تكن أبعد الناس وأرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما)) وقد عظم حرمة الجار أكثر من غيره فقد سأل رسول الله عن الزنا فقال: حرام حرمه الله ورسوله فقال: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزن بامرأة جاره)).
وقد توعد رسول الله أولئك الذين يسؤون إلى جيرانهم حيث قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليكرم جاره))، ((فليحسن إلى جاره))، ((وخير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)).
والمسلم يحرص على المعاملة الطيبة لجيرانه ليكون ذلك سبيلا إلى الجنة ويبعد عن السوء لئلا يحجب عن رحمة الله، فقد روى الإمام أحمد: ((أن النبي قيل له: يا رسول الله إن فلانة،صوامة قوامة غير أنها تؤذي جيرانها، هي في النار، . .)) ولشدة عناية الرسول بحق الجار قال : ((ما زال جبريل يوصي بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
وهذا الجار أيها المسلمون ليس الذي يلاصقك في المنزل أو يكون إلى جانبك في العمل أو السفر فحسب، بل إن الجيران يكونون به شيئا : ففيه أنس وحشتهم، وراحة بالهم، واستقرار حياتهم، وبه الأمن على كل مرتخص وغال عندهم، إنه غناهم حين يفتقرون، وأنهم حين يستوحشون و (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر )) .
فما أجمل أن يتخلق المسلمون بهذا الخلق، ويأخذوا أنفسهم بهذا المبدأ ويستنوا بسنة أكرم الخلق فيكونوا مع جيرانهم الأخيار الأطهار الذين يرجى نفعهم ويؤمن شرهم .
وإن من الواجب أن نأخذ أنفسنا بهذه التعاليم خصوصا ما كان متعلقا بالجار، فالفرد بجانبه آخر، والأسرة بجنبها أخرى، والأمة بجانبها أمم، حقٌ على كل أن يمد يده للمظلوم حتى ينتصر، وللفقير حتى يغنى، وللعاجز حتى يتقوى، وللمخطئ حتى يثوب إلى الصواب، وبذلك يربط الإسلام بين أبنائه ويجمع كلمتهم على الحق وتكتب لهم عندئذ الكرامة، ويكونون بحق أتباع محمد صلوات الله عليه، ويكونون الأمة الثابتة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة أو خير الناس.
فاتقوا الله عباد الله وقوموا أنفسكم واعملوا صالحا يكن لكم: يوم لا ينفع مال ولا بنون . . .
|