أما بعد:
فما خلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وما أرسل رسله وأنزل كتبه إلا ليقوم الناس بالحق، فالله تعالى هو الحق، وخلق خلقه بالحق لغاية وحكمة، فالله تعالى منزه عن الباطل، منزه عن العبث .
وهذا الإنسان ليس بدعا بين المخلوقات، فلم يخلقه الله تعالى عبثا، ولم يتركه سدى، وإنما خلقه ليكون خليفة في هذه الأرض، يعمرها وفق منهج الله تعالى، فيحقق بذلك غاية وجوده التي قال الله تعالى فيها: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
فقد أمر الله تعالى الخلق أن يعبدوه وأن يفْرِدوه بالعبادة والتوحيد، وهذا هو ما جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام للدعوة إليه، منذ عهد نوح إلى أن ختموا بنبينا محمد .
وهذا التوحيد الذي جاءت به الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، مبناه على أن الله تعالى واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وواحد في ألوهيته وعبادته، لا ند له ولا شريك.
وقل إن شئت يا أخي المسلم، إن التوحيد ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وهذه الأقسام الثلاثة متلازمة، لا ينفك قسم منها عن الآخر، فتوحيد الربوبية، وكذلك توحيد يستلزم توحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية هو مقتضى توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الأسماء والصفات، والى هذا المعنى أشارت الآية الكريمة: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم . فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يستحق العبادة لأنه هو الخالق وحده، ولذلك فمن أتى بنوع واحد من هذه الأنواع للتوحيد، ولم يأت بالأخرى، فإنه لم يأت بما أتى به على الوجه المطلوب، وعندئذ لا ينتج أثره المطلوب.
ولعله من الخير أن نخص كل نوع من هذه الأنواع بخطبة، بادئين بتوحيد الربوبية :
وتوحيد الربوبية هو اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى وحده هو خالق العباد ورازقهم، وهو محييهم ومميتهم، وأنه سبحانه وتعالى النافع الضار، والمتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، والأمر كله له سبحانه بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
فالله سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق، ومنذ البدء أخرج الله تعالى الحي من الميت . والخلق هو المعجزة التي لا يدري سرها أحد فضلا عن أن يملك صنعها أحد: إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون .
وإذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق، فكيف يكونون شركاء له في الربوبية والألوهية، فالمخلوق لا يكون خالقا ولا يكون أبدا شريكا للخالق، فهو وحده الذي يتوجه إليه بالعبادة: ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل . يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب . ولهذا أثره في النفس، فإن المؤمن لن يخاف من أحد ، ولن يكون جبانا.
وإذا تفرد الله تعالى بالخلق، فهو من ثم متفرد بالملك له ما في السماوات وما في الأرض: وقل الحمد الله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً، قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير .
ومن ثم فالله سبحانه هو رازق العباد وهو متكفل بذلك: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ، وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ، ومرّ معنا قصة الأصمعي مع الأعرابي: قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله قل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون .
وأما النفع والضر فهو كله بيد الله فهو النافع الضار، ولا يملك العباد لأنفسهم شيئا من ذلك: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ، ولن يجلب نفعا ولن يدفع ضرا عن أحد إلا الله: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، وفي وصية الرسول لابن عباس :واعلم أن الأمة ولو اجتمعوا. . . .
وكم تكون عظيمة خسارة أولئك الذين يعبدون آلهة من دون الله لا تنفع ولا تضر، وكم تكون سخيفة عقولهم ومخرفة نفوسهم وفطرتهم: و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون .
والله سبحانه وتعالى هو الذي يستجيب دعاء العبد، دون وساطة فهو قريب مجيب: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ، فمن الواجب أن يتجه المرء بالدعاء إلى الله تعالى وحده: وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين .
والله سبحانه وتعالى هو الذي يغيث عبده المضطر عندما يلجأ إليه، وعجيب أمر هذا الإنسان فإنه لا يذكر الله إلا في ساعة العسر والشدة، ولا يعود إلى فطرته إلا في ساعة الكربة، وأكثر ما يكون العبد تذكرا لله عندما يقع في الشدائد، ولكنه بعد ذلك ينسى الله تعالى في السراء بعد أن يكتب له النجاة من الضراء: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق .
ويقول تعالى: أمن يجب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون .
وإذا أيقن المؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو وحده الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع الذي بيده الأمر كله، فينبغي أن يتجه إلى الله تعالى وحده بالعبادة، فإن توحيد الربوبية يستلزم ويقتضي توحيد العبودية، واسمعوا إلى قول الله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشاً . . ينبغي أن يتوجه المرء بالعبادة أيا كانت إلا لله سبحانه الذي فطر السماوات والأرض: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، ومن هذه المشكاة جاء دعاء النبي : ((اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفرلي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)). |