أما بعد:
فيا أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والاجتهاد في الأعمال الصالحة والعمل لما بعد الموت.
إخواني، إنها أشرف الساعات، وأنفس اللحظات في تاريخ العبد المؤمن، تلك اللحظة التي يتناول فيها كتابه بيمينه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَـٰبيَهْ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً تكاد تخرج روحه من بين أضلعه فرحا إنه كتاب من عزيز راحم ـ سبحانه ـ ذي الجبروت والملكوت والإجلال والإكرام.
فتفتح لهم أبواب الجنة: جَنَّـٰتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلاْبْوَابُ وعدتها ثمانية، فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان.
وقد يدعى العبد الصالح المحسن من تلك الأبواب كلها، ومقدار ما بين مصراعي باب الجنة أربعون سنة، قال عتبة بن غزوان : وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام كما ذكر له.
وإن سألت عن زمر أهل الجنة، أي الذين يدخلون الجنة أول الناس، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة)).
أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر، لقد أخبر الصادق المصدوق أن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك: ((أن أم الربيع بنت البراء أتت رسول الله فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غَرَبَ، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، قال: يا أم حارثة إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)).
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى عن رسول الله قال: ((جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما، وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء عن وجهه في جنة عدن))، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَىّ ءَالآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ.
سئل النبي عن الجنة ما بناؤها قال: ((لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها المسك الأذخر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم ولا يفني شبابهم)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، وكما أن هذا حالها وأرضها وبناؤها فإن فيها خيمة من درة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل لا يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن، ولك أخي الكريم أن تتخيل هيئة هذه الخيمة، وإذا أجال العبد المؤمن طرفه يرى شجرة كما أخبر النبي يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً، فإن اشتهى الفاكهة ففيها كما أخبر الله تعالى: فِيهِمَا مِن كُلّ فَـٰكِهَةٍ زَوْجَانِ وقال: فِيهِمَا فَـٰكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، وَفَـٰكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ.
وليست تلك الفواكه كفواكه الدنيا، وإنما تتشابه في الأسماء، فالاسم هو الاسم والمسمى. غير المسمى، ألا ما أطيب تلك الثمار التي غرست أشجارها في أرض المسك ثم سقيت بماء هو أطهر ماء وأنقاه، وأعذب مورد للصادي وأحلاه، فإن كنت تريد غرسا في الجنة فلا يَفْتُرَنّ لسانك عن (سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر) فهو غراسها.
أما أولئك الأخيار فلهم فواكه مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وشرابهم أنهار تجري من غير أخدود، سبحان الله من أمسكها عن الفيضان، تجري من تحتهم وتفجر لهم كما شاءوا وأينما كانوا، وهذه الأنهار عسل مصطفى وماء وخمر لذة للشارب منه، ولبن لم يتغير طعمه، أما على ماذا يقدم الطعام والشراب، فعلى صحاف من ذهب يطوف عليهم بها غلمان كأنهم اللؤلؤ المكنون: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـٰفٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْوٰبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ.
وهم الملوك على الأسرة على رؤوسهم التيجان: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ، يَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ أبهج الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير، فقد جمع الله لأهل الجنة بين حسن منظر اللباس والتذاذ العين به، وبين نعومته والتذاذ الجسم فيه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|