أما بعد:
فأوصيكم إخوتي الكرام ونفسي بمراقبة الله سبحانه في الظاهر والباطن، ومحاسبة النفس في الدنيا قبل الحساب الأكبر يوم القيامة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي فقال: ((يا غلام أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) وفي رواية: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)).
قال ابن الجوزي: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه.
إن في هذا الحديث من معاني التوحيد والتعلق بالله وحده وتسليم الأمور له وحده والطمأنينة بقضائه وقدره، ما يشعر المسلم معه بطمأنينة النفس وسكون الروح، وسمو المشاعر وانضباط الجوارح.
لقد علم النبي ابن عباس ذلك الغلام الفذ علّمه تلك الوصايا العظيمة الجامعة لسعادة الدنيا والآخرة، وفيه درس عظيم لنا في أن نعلم أبناءنا ونساءنا ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وبث النصح والتوجيه المستمر، وفي الوقت المناسب، لتكون مصابيح في طريقهم إلى الخير.
أما قول النبي : ((احفظ الله يحفظك))، في هذا يعني حفظ حدود الله بلا تجاوز، وحفظ حقوقه، وأوامره ونواهيه، وذلك باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، جاء في الأثر: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حُرُمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها.
وقد أثنى الله على من حفظ حدود الله قال تعالى: والحافظون لحدود الله [التوبة 112] وقال تعالى: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [سورة ق 32-33]، ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال : ((من حافظ عليهن كن له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة)).
ومما أمر الله بحفظه الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم، ويدخل فيه حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات وما يجب حفظه من المنهيات حفظ اللسان والفرج قال : ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة)).
كما يشمل ما أمر الله به أن يحفظ العبد سمعه عن الحرام، وأن يحفظ بصره فلا ينظر إلى الحرام، فمن أدى ما أمر الله به حينئذ فليستبشر بحفظ الله له فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى: وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم [البقرة 40]. وكما قال تعالى: اذكروني أذكركم [البقرة 152]، وحفظ الله تعالى لعبده يتضمن نوعين:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، وكذلك كان يدعو بهذه الدعوات حين يمسي وحين يصبح يقول: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).
وقال علي : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه .
وحفظ الله وجده إبراهيم عليه السلام في النار، ووجده يوسف عليه السلام في الجب، ووجده يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، كما وجده موسى عليه السلام في اليَم وهو طفل مجرد من قوة ومن كل حراسة، كما وجده في قصر فرعون وهو عدو له متربص له.
ومن حفظ الله للعبد أن يحفظه في بدنه وقوته وعقله وماله، وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة وهو ممتع بعقله وقوته فوثب يوما من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر .
وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخا يسأل الناس فقال: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده كما قيل في قوله تعالى: وكان أبوهما صالحاً [الكهف 82] إنما حفظا بصلاح أبيهما، وقال سعيد بن المسيب لابنه: إني لأزيد في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه أن يحفظه من شر كل من يريده بأذى من الجن والإنس كما قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً [الطلاق 2]. وقال الربيع بن خثيم : يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس، وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية : إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا.
ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه أن يجعل حتى الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى، ساعية في مصالحه كما جرى لسفينة مولى النبي حيث كسر به المركب وخرج إلى جزيرة فرأى السبع، فقال: يا أبا الحارث، أنا سفينة مولى رسول الله ، فجعل يمشي حوله ويدله على الطريق حتى أوقفه عليه، ثم جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه.
اللهم اجعلنا حافظين لحدودك، مؤتمرين بأمرك، منتهين عما نهيت عنه يا رب العالمين .
|