أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى.
في مجلس من المجالس الطيبة العطرة بحضور النبي في المدينة ذات يوم يروي لنا أبو هريرة : أنه بينما كان رسول الله في مجلسه يحدِّث القوم جاءه أعرابي فقال يا رسول الله متى الساعة؟ فمضى رسول الله يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: ((أين السائل عن الساعة؟)) قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ((فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة))، قال، كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وُسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) رواه البخاري[1].
رسل الله عليهم الصلاة والسلام يُختارون من أشرف الناس طباعًا، وأزكاهم معادنًا. والنفس التي تظل محافظة على الفضيلة مع شدة الفقر ووحشة الغربة، هي نفس رجل قوي أمين. والمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد تتطلب خُلُقا لا يتغير بتغير الأيام، وذلك هو جوهر الأمانة.
وكان رسول الله قبل البعثة يلقب بين قومه بالأمين، وكذلك شوهدت مخايل الأمانة على موسى عليه السلام حين سقى لابنتي الصالح ورفق بهما، وكان معهما عفيفًا شريفًا: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَـجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَـجَرْتَ ٱلْقَوِىُّ ٱلامِينُ [القصص:26].
إخوة الإيمان، الإسلام يرقب من معتنقه أن يكون ذا ضمير حي، تصان به حقوق الله وحقوق الناس، ومن ثم أوجب على المسلم أن يكون أمينًا.
الأمانة في نظر الشرع صفة واسعة الدلالة، وهي تدل على معان شتى، هي بإيجاز: شعور المرء بمسؤوليته في كل أمر يوكل إليه.
وبعض الناس يقصرون فهم الأمانة في أضيق معانيها، وهو حفظ الودائع، وحقيقتها في دين الله أضخم وأجل.
إن الأمانة هي الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها، كما ورد في الدعاء للمسافر: ((استودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك)) [2].
وعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه أحمد[3].
بل كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من ضياعها، كما روى أبو داود أنه كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) [4].
تلكم أهمية الأمانة، فتعالوا إخوتي نتأمل بعضًا من معانيها.
فمن معاني الأمانة وضع الشيء في المكان الجدير به واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة لا ينظر إليها انظروا إلى أبي ذر حين قال في الحديث الذي رواه مسلم: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب يده على منكبي، ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) [5].
إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح المرء لحمل الأمانة، فقد يكون الرجل حسن السيرة حسن الإيمان، لكنه ليس أهلاً للمنصب ألا ترون إلى يوسف الصديق عليه السلام حين رشح نفسه لإدارة المال، لم يذكر نبوته وتقواه، بل طلبها بحفظه وعلمه قَالَ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلأرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فالأمانة تعني أن نختار للأعمال أحسن الناس قيامًا بها فإذا مِلنا عنه إلى غيره لِهوىً أو رشوة أو قرابة، فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة.
إن الأمة التي لا أمانة فيها هي من تعبث فيها الشفاعات بالمصالح وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء لتهملهم، وتقدم من دونهم.
ومن معاني الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملاً في العمل المنوط به وأن يحسن فيه تمام الإحسان.
إنها الأمانة التي يمجدها الإسلام بأن يخلص الرجل لعمله ويُعنى بإجادته، ويسهر على حقوق الناس التي وضعت بين يديه. واستهانة الفرد بما كلف به هو من استشراء الفساد في كيان الأمة وسبب لتداعيه.
وخيانة الواجبات تتفاوت إثمًا ونكرًا وأشدها شناعة ما أصاب الدين وجمهور المسلمين وتعرضت البلاد لأذاه،
قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فيقال: هذه غدرة فلان)) [8] وفي رواية ((لكل غادر لواء يرفع له بقدر غدرته، ألا ولاغادر أعظم من أمير عامة)) رواه البخاري[9].
أي ليس أعظم خيانة ولا أسوأ عاقبة من رجل تولى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعها .
ومن معاني الأمانة أيضًا أن يستغل الرجل منصبه الذي عين فيه لجر منفعة إلى شخصية أو قرابته، فإن التشبع من المال العام جريمة قال :((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أبو داود[10].
أما الذي يلتزم حدود الله في وظيفته، ويأنف من خيانة الواجب الذي طوقه، فهو عند الله من المجاهدين لنصرة دينه وإعلاء كلمته قال : ((العامل إذا اسْتُعْمِل فأخذ الحق وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته)) رواه الطبراني[11].
وقد شدد الإسلام في ضرورة التعفف عن استغلال المنصب وشدد في رفض المكاسب المشبوهة، فعن عدي بن عمير قال سمعت رسول الله يقول: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)) رواه مسلم[12].
واستعمل النبي رجلاً من الأزد على الصدقة فلما قدم بها قال: هذا لكم وهذا أُهدي إليَّ. فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هديته، إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير)) ثم رفع عليه الصلاة والسلام يديه حتى رؤي بياض إبطيه يقول: ((اللهم بلغت)) [13].
الله أكبر! إنها الأمانة في أسمى معانيها التي ينبغي تحقيقها يا عباد الله.
ومن معاني الأمانة أيضًا أن يتأمل المؤمن ما حباه الله من مواهب خصه بها، أو أموال وأولاد رُزقها، ويدرك أنها ودائع الله الغالية عنده، فيجب تسخيرها في قرباته، واستخدامها في مرضاته، وإن ابتلي بنقص شيء منها فلا يستخفنّه الجزع، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوٰلُكُمْ وَأَوْلَـٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
ومن معاني الأمانة: أن تحفظ حقوق المجالس التي تحضرها، فلا تدع لسانك يفشي أسرارها، وينشر أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: ((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة))[14].
إن حرمات المجالس تصان، مالم يكن ما فيها محرمًا، حتى العلاقات الزوجية في نظر الإسلام مجالسها تصان، فما يحوي البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يطوى في أستار مسبلة، لا يطلع عليها أحد مهما قرب، روى أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده فقال: ((لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها))، فأرم القوم أي سكتوا وَجِلِيْن فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: ((فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون))[15]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) [16].
إخوة الدين والعقيدة، وإن من الأمانة أن يحفظ الإنسان الودائع التي توضع عنده، ويردها إلى ذويها إذا طلبوها. انظروا إلى رسول الله كيف استخلف ابن عمه علي بن أبي طالب ليسلم إلى المشركين الودائع التي حفظوها عنده[17]، مع أنهم كانوا من الأمة التي استفزّته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: "ثلاثة يُؤَدِّين إلى الأمانة والعقد وصلة الرحم" رواه أحمد.
وعن عبد الله بن مسعود قال: "القتل في سبيل الله يُكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة، وأشد ذلك الودائع؛ قال راوي الحديث فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟! قال البراء: صدق أما سمعت الله يقول: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلامَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ [النساء:58].
ومن معاني الأمانة أنها تدعو إلى رعاية الحقوق وتعظيم النفس عن الدنايا، ولا تكون إلا إذا استقرت في وجدان المرء وحافظ عليها، روى مسلم عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله أنه قال: ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة))[18] فالأمانة إذاً هي تمثل الكتاب والسنة في عمل الإنسان صاحب الضمير الحق، فإذا ذهب إيمانه انتزعت الأمانة، فما يغنيه ترديد الآيات ولا دراسة السنن، وأدعياء الإسلام يزعمون للناس ولأنفسهم أنهم أمناء على الأمة، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق وأهله.
ويقول حذيفة: "ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبهـ فيظل أثرها مثل الوكت[19]، ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل[20]، أي أقل ثم قال فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وحتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان...".
إن الأمانة ـ إخوة الإيمان ـ فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تثقل كاهل الوجود كله، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها أو يفرط في حقها ومع كل ذلك فقد تحمل الإنسان الأمانة بظلمه وجهله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلاْمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
[2] صحيح ، أخرجه أحمد (2/7) ، وأبو داود ح (2600-2601) ، والترمذي ح (3442) ، وقال : حديث غريب. وابن ماجه ح (2826).
[3] صحيح ، مسند أحمد (3/154).
[4] حسن ، سنن أبي داود ح (1547) ، وأخرجه أيضاً النسائي ح (5468) وابن ماجه ح (3354).
[6] مستدرك الحاكم (4/92-93) وصححه ، وفي إسناده حسين بن قيس، ضعّفه المنذري في "الترغيب" ح (3268).
[7] مستدرك الحاكم (4/93).وصححه وفي إسناده بكر بن خنيس نقل الذهبي عن الدارقطني أنه قال فيه: متروك.
[9] أخرجه البخاري ح (3188) دون قوله: ((ألا ولا غادر...)) واللفظ لأحمد (3/46).
[10] صحيح ، سنن أبي داود ح(2943).
[11] ضعيف ، المعجم الكبير للطبراني ح (281). وانظر كلام المحقق.
[13] أخرجه البخاري ح (2597) ، ومسلم (1832).
[14] حسن ، سنن أبي داود ح (4868) ، وأخرجه أيضاً أحمد (3/380) ، والترمذي ح (1959) ، وقال : حديث حسن.
[15] مسند أحمد (6/456-457) قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/294) : وفيه شهر بن حوشب ، وحديثه حسن ، وفيه ضعف. وله شواهد يتقوى بها ، انظر إرواء الغليل للألباني رقم (2011).
[16] أخرجه أحمد (3/69) ، ومسلم (1437) بمعناه ، وفي إسناده: عمر بن حمزة العمري . قال ابن حجر في التقريب (4918) : ضعيف. وضعف هذا الحديث الذهبي في ميزان الاعتدال (3/192). وانظر آداب الزفاف للألباني ص (142).
[17] ذكره ابن إسحاق بدون سند (سيرة ابن هشام (2/485) وانظر : السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، مهدي رزق الله أحمد (ص268).
[19] الوكت: جمع وكتة بمعنى الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه. (بتصرف من النهاية في غريب الحديث، مادة وكت).
[20] يقال: مَجَلت يده تمجُل مجْلاً، ومجلت تمجَل مجَلا، إذا ثخن جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصُّلبة الخشنة. (النهاية، مادة مجل). وفي مادة (مجل) في القاموس: مجلت يده..: نفطت من العمل فمرنت.. أو المجْل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء. |