أما بعد: فإن الله تعالى لم يفرض من شعب الإيمان وشرائع الإسلام أمرًا أعظم بعد التوحيد من الصلاة، فالصلاة هي أعظم شعب الإيمان وأركان الإسلام بعد التوحيد وهى عمود الدين كما أخبر بذلك سيدنا رسول الله ، وقد سماها الله في كتابه إيمانًا فقال سبحانه وتعالى: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة:143].
وسبب نزول هذه الآية أنه لما نزلت آية القبلة على سيدنا رسول الله وكانت قد حضرته صلاة العصر فصلى صلاة العصر إلى الكعبة في مسجده النبوي ولم تبلغ آية القبلة أهل قباء في هذا المسجد إلا في اليوم التالي فبلغتهم وهم في صلاة الصبح فتحولوا إلى الكعبة وهم في الصلاة وأشكل على أصحاب رسول الله أمر المصلين الذين صلوا قبل أن تبلغهم هذه الآية وأمر المصلين الذين ماتوا قبل أن تنزل هذه الآية آية القبلة ما حكم صلاتهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ليبين حكم صلاتهم: وما كان الله ليضيع إيمانكم [البقرة:143]. أي صلاتكم.
وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال كان آخر وصية أوصى بها النبي وهو يغرغر بها في صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه ((الصلاة الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)).
وثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما طُعن عمر رضي الله عنه احتملته أنا ونفر من الأنصار فأدخلناه في منزله فلم يزل في غشية واحدة حتى أسفر "أي طلع الصبح" فقلنا الصلاة يا أمير المؤمنين.
ففتح عينيه ثم قال: أصلى الناس؟ قلنا:- نعم. قال:- أما إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى رضي الله عنه وجرحه يثعب دمًا.
فهذا سيدنا رسول الله وهو في أشد حالات النزع والاحتضار يوصي أمته بالصلاة، وهذا أمير المؤمنين الفاروق عمر وهو مطعون وهو في تلك الحالة من شدة الاحتضار وكرب النزع والاحتضار وهو يسأل عن صلاة الناس ويوصي الناس بالصلاة.
وهكذا عادة جميع أصحاب رسول الله تعظيم شأن الصلاة، كانوا يعظمون شأن الصلاة ويعدونها عمود الدين فلا دين عندهم بلا صلاة، هي عمود الدين كما أخبرهم بذلك سيدنا رسول الله .
وكيف لا تكون هذه الأهمية لهذه الفريضة العظيمة وهى الصلة بين العبد وبين ربه إذا قام العبد للصلاة فقد قام بين يدي ربه عز وجل، إذا استقبل القبلة فإن الله تعالى تجاهه، العبد في الصلاة واقف بين يدي ربه يناجيه، يناجي ربه بتسبيحه وتحميده والقيام بين يديه والركوع له والسجود وذكره سبحانه وتعالى، فالصلاة هي الصلة بين العبد وربه، هي أيضًا علامة على التسليم والانقياد للرب عز وجل، الصلاة بحركاتها وأفعالها وأذكارها علامة بارزة على التسليم والانقياد لله عز وجل.
الصلاة بما فيها من قيام بين يدي الملك العلام وما فيها من ركوع وسجود وتسبيح له وتحميد وقراءة للقرآن علامة بارزة على التسليم والانقياد لله سبحانه وتعالى، فمن عصى ربه بترك الصلاة فقد أبى التسليم والانقياد لله عز وجل ولا إسلام ولا إيمان بلا انقياد ولا تسليم، قال عز وجل: فمن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [لقمان:22]. وقال : ((الإسلام أن تسلم قلبك لله)).
وهذا إبليس لعنه الله ما الذي أخرجه من رحمة الله وسبب له الطرد من رحمة الله واللعنة الأبدية إلى يوم يبعثون؟
لقد أبى التسليم والانقياد لأمر الله عز وجل عندما رفض أن ينفذ. أمره عز وجل بالسجود لآدم. عندما رفض أن يسجد لآدم وإلا فإقرار إبليس بربوبية الله وألوهيته ما اعتراه نقص ولا شك ولا تردد لكنه مع توحيده لله ومع معرفته بالله عز وجل أبى التسليم والانقياد لأمره، ورفض السجود لآدم امتثالاً لله عز وجل، رفض الامتثال لأمر الله عز وجل بالسجود لآدم فكفر بذلك وأبلس أي طُرد من رحمة الله عز وجل إلى يوم يبعثون.
ومن عصى ربه بترك الصلاة فقد أبى السجود لله فهو ليس أحسن حالاً من إبليس، بل هو أسوأ حالاً من إبليس فإبليس كفر برفضه السجود لآدم، وهذا الذي ترك الصلاة رفض بتركه السجود لله رب آدم رفض السجود لله عز وجل رب آدم ولذلك فهو أسوأ حالاً من إبليس ولذلك فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا لا يعدون شيئًا من المعاصي كفرًا إلا ترك الصلاة.
ثبت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنهم سألوه فقالوا: نجد في القرآن الإكثار من ذكر الصلاة الذين هم على صلاتهم دائمون [المعارج:23]. على صلاتهم يحافظون [المعارج:34].
فقال: ذلك أي على مواقيتها، يحافظون على مواقيتها.
فقالوا: إنما كنا نرى يا أبا عبد الرحمن على تركها - أي يحافظون عليها بفعلها وعدم تركها-.
فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تركها كفر.
وثبت عن عبد الله بن شقيق رضي الله عنه أنه قال: كان أصحاب محمد لا يعدون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
أي كان أصحاب محمد يعدون ترك الصلاة كفرًا.
وجاء الخبر يصدقهم على هذا الفهم، جاء الخبر عن رسول الله يصدقهم على هذا الفهم، فقد ثبت عنه أنه قال: ((أنه ليس بين الرجل وبين الشرك أو الكفر غير الصلاة)).
وثبت عنه قوله : ((العهد الذي بيننا وبينهم - أي المشركين - الصلاة فمن تركها فقد كفر)).
وهذا الكفر الذي وُصف به ترك الصلاة هو ليس مثل الكفر الذي وُصفت به بعض المعاصي في مثل قوله : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)).
ومثل قوله : ((المراء في القرآن كفر)).
أو مثل قوله : ((من كفر مسلمًا فقد باء به أحدهما)).
أو مثل قوله إن صح عنه ذلك: ((من أتى حائضًا فقد كفر)).
الكفر الذي وُصف به ترك الصلاة ليس مثل هذا الكفر الذي وُصفت به هذه المعاصي فإن هذا الكفر الذي وُصفت به هذه المعاصي هو كفر دون الكفر الأكبر المخرج من الملة.
فإن من قاتل مسلمًا أو من كفر مسلمًا أو من جادل في بعض مسائل القرآن أو أتى حائضًا لا يخرج من الملة وإن عصى ربه عز وجل وأتى ذنبًا عظيمًا يدل على عظم هذا الذنب وصف النبي له بالكفر.
لكنه كفر لا يخرج من الملة بخلاف ترك الصلاة فإنه كفر أكبر يخرج من الملة يدل على ذلك فهم أصحاب سيدنا رسول الله .
فإنهم مع أنهم لم يفهموا من وصف الكفر الذي أُطلق على تلك المعاصي أنه كفر أكبر يخرج من الملة فهموا من وصف الكفر الذي أطلق على ترك الصلاة أنه كفر أكبر يخرج من الملة.
ويدل على صحة فهمهم هذا كتاب الله عز وجل فإننا نجد فيه أنه جعل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة علامتين على صحة الإسلام وصحة التوبة لقوله عز وجل: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين [التوبة:11].
معنى ذلك أن من أقام الصلاة وآتى الزكاة، دلت إقامته للصلاة وإيتاؤه للزكاة على صحة إسلامه وصحة توبته. أما إذا لم يفعل ذلك فإسلامه غير صحيح وتوبته غير صحيحة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.