أما بعد :
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى .
أيها الإخوة المؤمنون: مرت اثنتا عشرة سنة على بعثة النبي لدعوة أهل مكة إلى الإسلام لكن جهاد هذه الدعوة الذي حمله محمد عرَّضه لعواصف عاتيه من الإيذاء والبغضاء والافتراء ومزّق شمل أتباعه فما ذاقوا مذ آمنوا به راحة الركون إلى الأهل أو المال، عذبهم أهل مكة حتى رأوا الأهوال، وكان آخر العهد بمشاق الدعوة طرد ثقيف للنبي وإيذاؤهم له ثم دخوله إلى البلد الحرام في جوار مشرك، إن هوانه ذلك على الناس جعله يجأر إلى رب الناس شاكيا راجيا.
فمن تسلية الله له ومن نعمائه عليه أن يهيئ له رحلة سماوية لتمس فؤاده المُعنَّى ببرد الراحة، وليشعر أنه بعين الله مذ قام يوحده ويعبده، ويعلم البشر توحيده وعبادته، وعلم من هذه الرحلة أن حظه من رضوان الله جزيل، وأن مكانته بين المصطفين الأخيار موطدة مقدّمة، وفي تلك الظروف الحرجة التي مر بها ومع أمل جديد بدأ يلوح من قبل يثرب وقع حادث الإسراء والمعراج، حيث أسرى برسول الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكبا على البراق، حيث صلى بالأنبياء هناك ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء فتدرج بها حتى ُرفع إلى سدرة المنتهى ثم عُِرج به إلى الجبار جل جلاله فدنا منه حتى كان قاب قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى.
أيها المسلمون:
الإسراء والمعراج يقعان قريبا من منتصف فترة الرسالة التي مكثت ثلاثة وعشرين عاما وبذلك كانت هذه الرحلة علاجا مسح متاعب الماضى ووضع بذور النجاح للمستقبل، فكان لرؤية طرف من آيات الله الكبرى في ملكوت السماوات والأرض أثره الحاسم في توهين كيد الكافرين وتصغير جموعهم ومعرفة عقباهم في قلب محمد وصحابته، لم يكن الإسراء مجرد حادثة من الخوارق أجراها الله عز وجل لنبيه لتكون دليلا على صدق دعوته، ولم يكن نوعا من المعجزات التي يؤتى بها الإمام الحجة على المعارضين، فإن القرآن الكريم وحده كاف في ذلك وإنما كان للإسراء برسول الله بالإضافة إلى ما سبق معان غابت عن أفهام كثير من الناس فلم يدركوها وخفيت على أذهانهم فمروا بها فلم يتدبروها، ومع كون الإسراء والمعراج مظهرا من مظاهر تشريف رسول الله بالمثول بين يدي الله تعالى وتحقيقا لكل معاني التكريم والإجلال التي أهدرها أهل الطائف ولم يراعوا لها حرمة عند استقباله، مع كل هذا فإن الإسراء يشتمل على عدد آخر من المعاني والوقفات يجمل بنا أن نتذكرها عند ورود هذا الحدث أو مرور زمانه علينا، فمن معاني الإسراء أننا نرى فيه كرامة الله عز وجل لهذه الأمة. فقد ظلت النبوات دهورا طوالا وهي وقف على بني إسرائيل وظل بيت المقدس مهبط الوحي ومشرق أنواره على الأرض، والوطن المحبب إلى شعب الله المختار، فلما أهدر اليهود كرامة الوحي وأسقطوا أحكام السماء، حلت بهم لعنة الله وتقرر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد ومن ثم كان مجيء الرسالة إلى محمد انتقالا بالقيادة الروحية في العالم من أمة إلى أمة ومن بلد إلى بلد ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل وهذا هو سبب بغض اليهود: بئسما شروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب .[البقرة]
لكن إرادة الله مضت وحملت الأمة الجديدة رسالتها، وورث النبي العربي تعاليم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وقام يكافح لنشرها، وجمْع الناس عليها فكان الإسراء والمعراج من وصل الحاضر بالماضي، وإدماج الكل في حقيقة واحدة فاعتبر المسجد الأقصى ثالث الحرمين، ومسرى رسول الله فيكون هذا الإسراء دلالة للإيمان الذي درج قديما في رحابه وجمع الله فيه في تلك الليلة المرسلين السابقين مع صاحب الرسالة الخاتمة والنبوات يصدق بعضها بعضا ويمهد السابق منها للاحق وبذلك أخذ الله الميثاق وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [آل عمران:81] وفي السنة الصحيحة أن رسول الله صلى بالأنبياء ركعتين في المسجد الأقصى فكانت هذه الإمامة إقرارا مبينا بأن الإسلام كلمة الله الأخيرة إلى خلقه أخذت تمامها إلى يد محمد بعد أن وَطّأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين، ومن معاني الإسراء والمعراج: نرى أهمية سلامة الفطرة في الإسلام ففي ليلة الإسراء تأكدت صفة هذا الدين الأولى وهي أنه دين الفطرة ففي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ((ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من ماء فسمعت قائلا يقول حين عرضت عليه إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته وإن أخذ اللبن هدي وهُديت أمته قال: فأخذت اللبن فشربت منه فقال لي جبريل هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك)). إن سلامة الفطرة لب الإسلام ويستحيل أن تفتح أبواب السماء لرجل فاسد السريرة، عليل القلب، إن الفطرة الرديئة كالعين الحمئة لا تسيل إلا قذرا وسواداً وربما أخفى هذا السواد الكريه وراء ألوان زاهية ومظاهر مزوّقة بيد أن ما ينطلي على الناس لا يخدع به رب الناس، والناس الآن كلما تقدم بهم الزمان ومادياته أمعنوا في التكلف والمصانعة وقيدوا أنفسهم بعبادات وتقاليد قاسية أليست البدع التي توارثها الناس في بعض العبادات بما فيها من تكلف وتعب ومشقة هي انتكاس لحقيقة هذا الدين وجوهره وأكثر هذه التكلفات حُجُب تطمس وهج الفطرة وتعكر نقاوتها وطلاقاتها ؟! وليس أبغض إلى الله من أن تفترى هذه البدع وتمارس هذا القيود باسم الدين، وأن تترك النفوس وسجونها مغلولة كئيبة.
أيها المسلمون:
ومن معاني الإسراء والمعراج وأحداثه أن الصلوات الخمس شرعت فيه، شرعها الله لتكون معراجا يرقى بالناس كلما تدلت بهم شهوات النفوس وأعراض الدنيا، إن الصلوات التي شرعها الله هي غير الصلوات التي يؤديها بعض الناس اليوم فالصلاة التي فرضت هي باختصار صلة بين العبد وربه، تقوَّي إيمانه، وتدعَّم يقينه، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر يؤديها بقلب خاشع لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة فهل يا ترى صلاتنا اليوم كذلك نسأل الله أن يعفو عنا وأن يهدينا صراطه المستقيم. إن علامة صدق الصلاة أنها تعصم صاحبها من الدنايا فإن لم تكن الصلاة كذلك فهي صلاة ناقصة، والصلاة بوضوئها المتكرر طهور وطهارة وكفارة للذنوب وزيادة في الحسنات فهي تؤدي خمس صلوات، عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله : ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) أخرجه البخاري ومسلم، إن أصحاب القلوب الميتة لا تجديهم الصلاة فتيلا ولن يزالوا كذلك حتى تحيا قلوبهم أو يَطمس الران عليها.
من معاني هذا الحدث العظيم أننا نرى فيه عموم رسالة الإسلام لجميع أمم الأرض فحين وصوله عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس كان في استقباله كما ذكرنا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يكن استقبالا لمجرد الاحتفاء، وإنما كان للإقرار بنبوته وسبقه عليهم في المكانة والقدر وتوضيحا لمعنى عموم رسالته وكانت إمامته دعوة صريحة لأممهم بطاعته والائتمام به، إن صلاته إلى بيت المقدس ثم تحوله إلى الكعبة في مكة ليوحي بأنه النبي الذي يجب أن يدين له أهل القبلتين ويؤمن برسالته كل العالمين فليست دعوة محليه أو إقليمية وما كانت رحلته إلا إثباتا لذلك.
أيها الأخوة : ومن معاني الإسراء والمعراج أن في الإسراء إشارة واضحة إلى أن الدولة الإسلامية ليس لها حدود تنتهي عندها، ولا معالم يجب ألا تتخطاها، وإنما يجب أن تكون الأرض كلها دولة للإسلام، فرسول الله ولد في مكة ودعا في مكة والطائف وأُسرى به إلى بيت المقدس، وهاجر إلى المدينة، وهاجر أصحابه الحبشة، فالأرض لله يورثها عباده المؤمنين وقد عرف محمد في رحلته هذه أن رسالته ستنساح في الأرض وتتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات وتنتزع هذه البقاع من مجوسية الفرس وتثليث الروم، بل وسيكون أهل هذه البقاع حملة للإسلام جيلا في أعقاب جيل.
إخوة الإيمان:
هذا هو حدث الإسراء والمعراج الذي حدث كله في ليلة واحدة ولما كانت صبيحة هذه الليلة المشهورة حدّث رسول الله بما تم له وما شهد من آيات ربه الكبرى، فقال الناس هذا والله الأمر البين والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة أفيذهب ذلك محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة فأراد المشركون استغلال هذه الخبر في تضعيف نبوته وتوهين صحابته لكنهم واجهوا قلوبا قوية صادقة من أمثال أبي بكر الذي ذهب الناس إليه فقال: ((هل لك يا أبا بكر في صاحبك ،يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة فقال لهم أبو بكر إنكم لتكذبون عليه فقالوا : بلى، هاهو ذالك في المسجد يحدث الناس به فقال بإيمان الصادق المؤمن: والله لئن كان قاله لقد صدق فما يعجبكم من ذلك فوالله إنه ليخبرنى أن الخبر يأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فهذا أبعد مما تعجبون منه ثم أقبل إلى رسول الله فقال يا نبي الله : أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة قال: نعم، قال: يا نبي الله فصفه لي فإني قد جئته يقول عليه الصلاة والسلام فرفع لي حتى نظرت إليه فجعل رسول الله يصفه لأبي بكر والناس وأبو بكر يقول صدقت، أشهد أنك رسول الله حتى إذا انتهى قال رسول الله لأبي بكر وأنت يا أبا بكر الصديق فيومئذ سماه الصديق)).
هذا هو حدث الإسراء والمعراج الذي وقع في السنة الثانية عشرة وقيل في ربيع الأول وقيل في رجب، وقيل في ذي القعدة لكننا حين نتذكر هذا الحدث يجب أن تستوقفنا فيه عبره والمغازي من ورائه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .[الاسراء:1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . . . |